in

الانفجار الذي بدأ منذ عقود.. نظرة إلى لبنان ما بعد الحرب وما أوصله إلى حريقه الأخير

الانفجار الذي بدأ منذ عقود.. نظرة إلى لبنان ما بعد الحرب وما أوصله إلى حريقه الأخير
الانفجار الذي بدأ منذ عقود.. نظرة إلى لبنان ما بعد الحرب وما أوصله إلى حريقه الأخير

شاهد ناجي. باحث لبناني مقيم في ألمانيا
لم يثر ما حدث في لبنان في الأسابيع الأخيرة سخط اللبنانيين فقط، بل امتد ليشمل العالم بأكمله. فقد هبّ العالم كله لاستنكار الانفجار وإرسال المساعدات وفرق الإنقاذ ولوم السياسيين في لبنان على ما آلت إليه الأمور.

ولم تكن زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون وتصريحاته النارية بحق السياسيين واستقالة الحكومة وتحولها لتصريف الأعمال بعدها إلا خير دليل على هول الفاجعة التي تسبب بها الانفجار ، وتأكيداً على الاستياء الدولي من الطبقة السياسية الحاكمة حالياً في لبنان بشقيها: الموالاة والمعارضة. 

إن قدرة الطبقة السياسة الحالية على البقاء والمراوغة والمراوحة في التحقيق بشأن الحادث ومعرفة حيثياته يثبت تماماً التورط الكامل لهذه الطبقة، ومحاولة إلقاء اللوم على الفريق الآخر لعبة صبيانية أصبحت مكشوفة وواضحة للشعب اللبناني، إذ أن التململ وعدم الثقة بدأ ينخر حتى في القواعد الشعبية للعديد من الأحزاب الناشطة على الساحة اللبنانية، وأيضاً بشقيها: الموالاة والمعارضة.

ولكن بالعودة إلى حيثيات الانفجار وتداعياته وتزامنه الغريب نوعاً ما -في التوقيت- مع صدور قرار المحكمة الدولية في قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، نرى أن الأصابع تشير وبكل وضوح إلى السلطة القائمة حالياً وعلى رأسها حزب الله. 

إن التقرير الذي نشرته صحيفة “ڤيلت” الألمانية عن علاقة السفينة التي حملت نيترات الأمونيوم والمالك الخفي وإيران، وتخزين هذا الكم الضخم في عنبر كبير في مرفأ يخضع بشكل مباشر لنفوذ حزب الله، يجعلنا في شك كبير فيما يتعلق بوجود المواد المتفجرة من ناحية معرفة ودراية حزب الله بها. 

هذا وحده لربما كافٍ لتوجيه الاتهام لهذه المنظومة فيما يتعلق بالشق التنظيمي، من ناحية التخزين وإبقاء مواد شديدة الانفجار لسنوات طويلة في مرفأ محاذٍ لمنطقة سكنية. خصوصاً وأن الوثائق في التحقيق أثبتت أن رئيس الجمهورية ورؤساء الوزراء المتعاقبين منذ ٢٠١٤ في لبنان تلقوا جميعاً إخطاراً بوجود هذه المواد الشديدة الانفجار في العنبر رقم ١٢ في مرفأ بيروت.

أما بالنسبة لما تسبب بالانفجار فتبقى التكهنات مفتوحة لحد الآن. فقد تكون رواية التلحيم الخاطئ نسج خيال، ولكن في بلد كلبنان لا يستبعد أي شيء. أما رواية “عمل استخباراتي” دون معرفة وتقدير هول النتائج فتبقى الأقرب للواقع. والسبب يكمن في تكتم حزب الله ومحاولة أمينه العام إزالة المسؤولية عن عاتقه عبر محاولة إقناع الشارع اللبناني أنه ليس لحزب الله أي نفوذ في المرفأ. فمن شاهد خطابه الأول بعد الانفجار، يرى بوضوح محاولاته للتعتيم والتملص من المسؤولية.

إن انفجار مرفأ بيروت ليس سوى “حبة الكرز على قالب الحلوى” كما يقال بالإنكليزية في مشاكل لبنان. فلبنان يعاني منذ تشرين الأول من السنة المنصرمة من ضائقةٍ اقتصادية نتيجة نظام طائفي وسياسات محاصصة انتهجتها الحكومات السابقة، والتي بدورها انصرفت إلى تعميق السيطرة على مرافق الدولة الحيوية، في محاولة لفرض النفوذ السياسي والحصول على مكاسب أكثر.

والتظاهرات التي ملأت شوارع المدن اللبنانية بعد قضية الضريبة التي حاولت حكومة سعد الحريري الأخيرة فرضها على تطبيق الواتساب، لم تكن وليدة اللحظة بل كانت تراكمات نتيجة للفساد المستشري في مفاصل الدولة منذ بداية الحرب الأهلية وحتى الوقت الحالي.

إن الاقتصاد اللبناني بعد الحرب الأهلية لم يتم بناؤه على الإنتاج الصناعي أو الزراعي، ولم تجر أية محاولة من الحكومات المتعاقبة بهذا الصدد. بل قام رفيق الحريري بعد نهاية الحرب الأهلية بتحويله إلى اقتصاد سياحي ومصرفي أي خدماتي. فقد استثمر في الاقتصاد السياحي بحجة أن السلام مع إسرائيل آتٍ لا محالة بعد اتفاقية كامب دايفيد. وبما أن السلام آتٍ، فإن الاستثمارات والأموال ستأتي إلى لبنان، وبالتالي نحن لسنا بحاجةٍ الآن إلى بناء القطاعين الزراعي والصناعي، لأننا سنتحصل على استثمارات الخارج الغربية ودول الخليج أيضاً كونه لدى الحريري الأب صلات عميقة مع المملكة العربية السعودية. أما بالنسبة للقطاع المصرفي، فإن لبنان كان ومنذ نشأته يمتاز بالسرية المصرفية ولهذا السبب أُغدِقَت المصارف اللبنانية بأموال الخليج العربي منذ ستينيات القرن الماضي وحتى بداية الثورة السورية. 

ما لم يأخذه رفيق الحريري بالحسبان هو التقارب الذي سيحصل لاحقاً، بعد نهاية الحرب الأهلية، بين إيران وسوريا، والنفوذ الذي سيعطى لحزب الله على الساحة الداخلية اللبنانية، خصوصاً بعد تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي عام ٢٠٠٠. التقارب الذي أدى في النهاية إلى اغتيال الحريري نفسه وقسم لبنان شقين بين معارض لحزب الله وبالتالي للمحور السوري-الإيراني، وبين موالٍ لهذا المحور على قاعدة الولاء الطائفي والتقارب الشيعي-العلوي في محور طهران-دمشق-الضاحية الجنوبية لبيروت. ولكن هذا موضوع له مقال آخر في وقتٍ لاحق.

بدأ التدهور الاقتصادي بالتسارع في لبنان بعد اغتيال الحريري الأب. ولسنا نقول هذا إلا لأنه كانت للحريري الأب علاقات دولية أتت بالاستثمارات والضمانات للبنان عبر عدة قنوات. إلا أن اغتياله عقّد الأمور كثيراً على اللبنانيين. فلقد حاول ابنه سعد لعب ذات الدور على الصعيد الداخلي والخارجي، إلا أنه وبسبب انعدام خبرته السياسية، قدم الكثير من التنازلات للخصوم السياسيين وخصوصاً حزب الله والتيار الوطني الحر. هذه التنازلات أتت بميشيل عون رئيساً، الأمر الذي سهل الأمور لحزب الله وحلفائه مما أدى إلى إحكام قبضتهم أكثر فأكثر على مفاصل الدولة، طبعاً دون الاكتراث لتنظيم الاقتصاد. 

ومن ثم أتت العقوبات الأميركية لاحقاً على إيران وبالتالي على حلفائها ومنهم شخصيات ومؤسسات وبنوك لبنانية، الأمر الذي أفاض بدوره لارتفاع سعر الدولار مؤخراً، طبعاً بالتزامن مع تواطؤ حاكم مصرف لبنان مع السياسيين وتحويل أموالهم للخارج، مع الإبقاء على أموال المودعين من عامة الشعب ضمن خطة لإبقاء سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية ضمن حد معين، والحؤول دون تحويلهم لأموالهم لإبقائها ضمن الخزينة العامة للدولة واحتياطي مصرف لبنان. 

لم تستطع حكومة حسان دياب فعل أي شيء مقابل التردي السريع الذي تتجاوز وتيرته اليومية قدرة المواطن اللبناني على استيعاب ما يحصل. فلقد بلغ التضخم المالي ما يعادل ١٠٠٪ خلال سنة، مع انخفاض أكثر من مضاعف لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، في دولة ينخرها الفساد ولا توجد أية معايير للخدمات فيها. ولم تكن أزمة كورونا إلا مسماراً آخر في نعش الاقتصاد اللبناني الهش. وهنا لا يسعنا سوى التخوف من أن يدخل لاعبون جدد على خط الأزمة، فإردوغان، على سبيل المثال لا الحصر، شخصية محبوبة لدى أبناء الطائفة السنية في لبنان، ومن غير المستبعد دخوله على خط الأزمة في المدى القريب.

إن التفويض الذي أعطته الإدارة الأميركية للفرنسيين بحل الأزمة اللبنانية، وحماسة ماكرون تجاه لبنان، والتصريحات النارية لوزير الخارجية الفرنسي لو دريان ضد السياسيين اللبنانيين، والتدخل الإيراني، قد تكون بصيص أملٍ ولو ضئيل خصوصاً وأنه ليس لحزب الله من مصلحةٍ في دخول معركةٍ عسكريةٍ حالياً مع إسرائيل، وبالتالي فإن تقديم بعض التنازلات على الصعيد الداخلي قد يكسبه الشيء القليل ولو على المدى القريب المنظور. لا سيما وأن دعاية التوجه شرقاً نحو الصين وإيران التي روج لها حسن نصر الله لم تلق صدىً إيجابياً، خصوصاً لدى الشارع المسيحي وعلى رأسه البطريرك الراعي. وللتذكير فقط فإن لبنان يعتاش جزئياً على المساعدات التي تغدقها الجهات المانحة الدولية عليه. إلا أن هذه المساعدات باتت الآن مشروطة بتنفيذ الإصلاحات ومكافحة الفساد ولربما لحد ما برحيل بعض أوجه السلطة الحالية. 

إن محاولة السلطة الحالية إعادة إنتاج نفسها عبر استعمال أدواتها الشعبوية، من إعطاء الأوامر لمناصريهم بالهجوم على المتظاهرين ضد السلطة في الشوارع، إلى مهاجمة كل من لا ينتهج خطهم السياسي عبر شاشات التلفاز، وتجييش أشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي بما يعرف لدى حزب الله مثلاً بالذباب الإلكتروني، لنشر أخبار مضادة، إلى تنظيم مسيرات دعم وتأييد لسياسييهم ومسؤولين حزبيين، هذا كله بدأ شيئاً فشيئاً يفقد فعاليته.. إذ بدأ الشارع اللبناني بالتمرد بشكل منتظم حتى على القوى الأمنية وطريقة تعاطيها مع الأحداث والمظاهرات المطلبية.

ولم يكن تعامل السلطة السياسية الحالية مع هول الانفجار إلا ليثبت أكثر من مرة، طفولية مفهوم العمل السياسي في لبنان. ولربما الأسوأ من ذلك هو إنكار ومحاولة رمي المسؤولية فيما حصل على الفريق المنافس سياسياً، وكأن الذي حصل هو حادث عرضي وليس أسوأ ما اقترفته هذه الطبقة في تاريخ لبنان، أو لربما يعادل بهوله الحرب الأهلية اللبنانية.

اقرأ/ي أيضاً:

ماذا تبقّى لهم؟ لبنانيون يسعون للهجرة بعد كارثة المرفأ وآخرون باقون..

بهاء الحريري بمواجهة حزب الله: تصريحاتٌ جريئة وإعدادٌ لقيادة مستقبلية

رصاصة طائشة في تشييع ضحيةٍ لانفجار مرفأ بيروت تُسقط ضحية جديدة

أعمال عنف أمام مبنى البرلمان الألماني والسفارة الروسية في برلين

“مواطنو الرايخ” وأعلام الإمبراطورية الألمانية القديمة في أعمال عنف أمام مبنى البرلمان الألماني والسفارة الروسية في برلين

مهاجرون أفارقة في السعودية

تحقيق: مهاجرون أفارقة في السعودية “تركوا ليموتوا” في مراكز احتجاز لاإنسانية