in

الهويّة في التشكيل السوري

عبد الرزاق، هبة، ياسر

 

سعاد عبّاس – ميونخ

انطباعات عن أعمال هبة الأنصاري، ياسر صافي، عبد الرزاق شبلوط

يستضيف البيت الأوروبي للفن في ميونيخ في إطار برنامجه لعام 2016 تحت عنوان “الهوية” ثلاثة فنانين سوريين هم “هبة الأنصاري، ياسر صافي وعبد الرزاق شبلوط”، يقيم الفنانون في البيت الواقع في بلدة فرايزينغ الصغيرة القريبة من ميونيخ طوال شهري نيسان وأيار، حيث يعمل كلٌ منهم على مشروعه الفني، والذي يعكس بشكلٍ من الأشكال هوية كلٍ منهم، لا كسوريين بمعنى الانتماء المكاني أو المواطني المطروق، بل كانتماءٍ ممتدٍ في الألم الذي يطغى على أعمالهم.

 

هبة الأنصاري، عين سمكة

تعمل هبة الأنصاري أثناء وجودها في فرايزينغ على مشروعٍ يشد أوتار الجسد حدَّ التمزق، تصنع أنوفًا ضخمةً من السيراميك بلونٍ أصفر صارخٍ كالخوف والشمس، لتقوم لاحقًا بتعليقها على أشجار الغابة القريبة من بيت الفن. تقول عن هذا العمل: “الآن ستستطيع الأشجار أن تشم رائحة كل هذا الألم. ستكون الغابة معرضًا لتسعة وتسعين أنف”.

 

رجالٌ بلا ملامح

10986453_1163169687050679_7208067535521502937_n

ليس هذا هو المشروع الأول لهبة في ألمانيا، فهي هنا منذ ثلاثة أعوامٍ تقريبًا حيث تدرس في أكاديمية الفنون الجميلة في ميونيخ، وقد أقامت عام 2015 معرض صورٍ في ميونيخ أيضًا تحت اسم “وحوش الغابة”، حيث قامت بتركيب مواضيعها عن وحوش داعش المقنّعة باستخدام مواد تضاهيهم قساوة: مسامير، واقيات ذكرية، أذرع دمى، جلد دجاج، أسماك مقطعة الرؤوس وقماش. لتؤكد على أن هؤلاء مجرد غرباء لا ينتمون للحياة كما تعرفها. تعيد الفنانة هنا تشكيل الملامح التي يخبئها الوحش بحرصٍ كي لا يُكشف يومًا أمام مرآة، فقوة القناع تأتي من التشابه الذي يجعل التكرار متاحًا ليتوالد الوحوش ألوفًا كالغزاة، فلا يمكن لأي ملامح أن تختزلهم إلى عددٍ محدود.

 

البرزخ

48142_713865125330696_1311537986_n

وفي كفرنبل “المحررة” قامت الأنصاري بتحضير “البرزخ” مشروع تجهيز في الفراغ “Installation” عام 2014، حيث اختارت مسرحًا لعملها بيتًا دمرته القنابل، في ساحة المدينة، كان يومًا حاضرًا في صور الكثيرين العابرين فيها أو المقيمين، وفي ذاكرتهم، ربما لأنه يتوسط ساحتها حيث يقف الباعة والعمال وطلاب المدارس والأمهات. هو من ناحيةٍ أخرى بيت، كما يعني البيت في وجدان كلٍ منا.. كان فيه أم وأخت وأطفال وأب. في مشروع هبة بقي من البيت إسمنت الجدران المهدمة، حديد الأسقف المتكسر فيها كالعظام، وأشباح أجسادٍ معلقةٍ بأثواب الكتان الأبيضِ المغبر، لم يبق من ملامح الإنسان فيه إلا التطاير. تتدلى من الفساتين المعلقة في الفراغ أرجل ماعز.

هي فقط وظلالها على الجدران، كل ما تبقى من بيت ساحة كفرنبل وكل ساحة، وكأنه إعادة تشكيلٍ للذاكرة والانتماء.

 

المسلخ

575712_515244721854583_1478559081_n-2

تقول الأنصاري عن مشروعها هذا من عام 2013: “نصحو وننام على صورٍ لأشلاء أجساد، أشلاء عالمٍ ممسوخٍ إلى أجسادٍ بلا وجوه. هل أطهو لك أطرافي؟”

المواد المستخدمة هنا تبدو حتى أكثر تطرفًا، لحمٌ أحمر، أحشاء حيوانات، عيون أسماكٍ لا تغمض، ووجه. كأنها تحاول في هذا المشروع أن تعيد تركيب الأجساد الممزقة. في كل عملٍ هنا يرى المشاهد النصف الحي والنصف المقتول فيه، وبعناية تقوم هبة بخياطة الرأس الذي اختطفته قذيفة؛ على جسدٍ نجا بأعجوبةٍ حتى من أي خدش.

لا يستطيع المشاهد أن يعبر بالصور أو أن تعبره، بل يتسمر أمام نفسه في كلّ صورة ليستعيد خمس سنواتٍ من مشاهدات الدمار، حيث تُسحَب الروحُ من الجسد بقسوة وتُفلَت قبل انقطاع النفس فلا يأتي الموت. كأن أعمالها كلها برزخ بين أن تكون أنت كما تتذكر نفسك، أو أنت الذي شاهد كل ما عبر اليوتيوب من مذابح في الأرض السورية.

بين هبة ذات الثلاثين شتاء وسوريا ذات الثمانية آلاف عام نتجمد في الحاضر، ونكاد ننسى أننا واهون جدًا أمامها، لا نمتد مثلها في الزمن، وليس لنا إلا أن نشفى يومًا من كل هذا الدم. هكذا قالت امرأةٌ ألمانيةٌ من الحضور لها، اقتربت من هبة، أمسكت بها من مرفقيها، وقالت: :أنت في عمر ابنتي أتمنى لقلبك الشفاء من الوجع”.

 

ياسر صافي، شخوصٌ مائلة

بين النحت والحفر والتصوير المائي تميل شخوص ياسر صافي حد السقوط، كائناته تشوبها لمسات الطفولة وهي أبعد ما يكون عن شفافيتها، ليس الغموض هو ما يكتنفها رغم لحظات التشويش التي قد تنتاب المشاهد لوهلة، بل هو الغضب كما يمكن أن يصرخ به طفل. لوحاته تُقرأ من اليمين إلى اليسار، من اليسار إلى اليمين، هي بالنتيجة حمالة أوجه.

المتابع لأعماله سيلاحظ التغيير الذي أصاب شخوصه في الأعوام الخمسة الأخيرة، وكأن كائناته الغريبة أشبعت مرارةً وعجزًا لتعكس ليس فقط ما يحسه الفنان بل تكاد تكون انعكاسًا لاستلاب أي سوريّ.

 

من مجموعة الشارع 2015

أجسادٌ غير مكتملة بفعل فاعل كأنها لم تكن يومًا كذلك، تبرز عن الخلفية الترابية لما يمكن أن يكون جدارًا أو شارعًا أو قاع قبر مع رؤوس دمى، ومحاولة إقناعٍ بأن أحد هذه الكائنات كان يومًا شخصًا ما يعتمر قبعة، لكنها لم تمنحه أي صفة أو هوية. يخترق اللونَ فراغُ أجسادٍ كان يمكن أن تكون، لكنها تركت على اللوحة مجرد خطوطٍ لم يملأها أي لون، لعل صافي أراد بذلك أن يشير إلى ما يُفتقد حتى قبل أن يُدرك.

صورة تذكارية 2015

unnamed

تراءى لي في البداية فريق كرة القدم المتراص بأيدٍ متكاتفةٍ في صورةٍ قد يُحتفى بها يومًا، لكنها ليست كذلك، لا قتامة الأزرق خلفها ولا العيون الكالحة المجوفة تشير لأي لعب، وحده حامل الكرة يوحي بأن ليديه دورًا ما في الحياة، لكن وجهه الداكن وتلك اليد اليسرى المعلقة في اللاشيء تنفي ذلك الإيحاء. تهتز الثقة التي تدعيها الأيدي المتشابكة في اللوحة بجسد اللاعب الأخير المتهالك على جانبها، يبدو أنه التحق بها كأنه لم يكن مقدرًا له الوجود أصلاً فبقيت يده مسبلةً، كما هو وكما هم، بلا حياةٍ ولا ادعاء.

 

عسكرة 2014

عسكرة

بسيطةٌ جدًا وصامتة، تشبه طلائع البعث والعسكر والأحزاب والمتدينين وو.. لكنها ربما مجرد رتلٍ للمؤلفة قلوبهم. لا شيء يمنح أولئك المصطفين أي هوية، فالأذرع الممتدة للترادف ملقاةٌ في الهواء، لا يستند أيٌ من شخوص هذه اللوحة على غيره. بل لعل حقيقته هي التراصف للصورة حيث تفضح العيون الملتفتة إلى الرسام مقصدها. لعل ما يخبرنا به هذا العمل أنه صورةٌ يجب أن تكون فقط للنسيان.

 

برميل 2013

برميل

في هذه اللوحة يكاد يختل التوازن الفيزيائي للحياة والموت وللتاريخ اليومي السوري، فيثبت البرميل الملون حيث يجب له أن يكون، ولكن؛ يعلوه أحد كائنات الرسام اللامعقولة ليثبت أن لا جدوى حتى من ثبات البرميل، فهذا الشخص الملون غير قادرٍ إلا على السقوط، يميل للأسفل وعيناه معلقتان بالبرميل، وكأن الخوف وحده ارتكب النتيجة نفسها والدمية ذاتها مهشمة والجدار ملطخ وأداة القتل راسخة.

لا يبدو الخوف جليًا على أيٍ من كائنات ياسر صافي، بل كلها جوفاء فارغة تسمح له أن يشوهها كما يشاء، مستلبةٌ تمامًا أمام يده حين يحفر أو يلون. تسقط حيثما يلقي بها في عوالمه تعكس اللاحول واللاقوة، ولا يدعي هو الجبروت هنا ولا صفة موزع الأدوار لكنه يبتلع غصة السنوات الخمس وربما ما قبلها، فيترك لأجساده الممزقة رفاهية التعلق على خلفيات لوحاته دون مشاعر، بينما يبتلع هو كل الغصات حين يزيد من كثافة ألوانه وزهائها.

يتسمر الخوف الملتقط في لوحة حارس المرمى، ترتطم الكرة بحافة الرأس حيث لا أذرع هناك قد تمتد لإمساكها، لا شيء يحمي من الهزيمة، ويترنح المرمى في عمق اللوحة، إذ لا أهمية حتى لاستقباله للكرة، إنها مجرد لعبةٍ للخوف حيث لا شيء إلا الخسارة وكأن ليس للكرة من رامٍ، إنما سقطت لتثبت للعاجز أن لا مناص.

ببساطة قال له مشاهدٌ عابر، حارس مرماك لا يخيفني.

 

عبد الرزاق شبلوط، الصمت

يتابع عبد الرزاق مشروعه الذي بدأه منذ أربع سنوات في الواقعية المفرطة “Hyper realism”، يرتب موضوعه ببساطة مستعيدًا تفاصيل الحياة اليومية السورية، مبتعدًا بإصرار عن إغواء تأويلاتٍ محتملة لمقاصد لا ينويها.

لا يريد إثارة الضجيج ولا يتيح للغضب أن يتأجج، يتعامل مع مواضيعه كما مع الأسى بتأنٍ وألفة، في محاولةٍ لإعادة الأمور إلى نصابها، متماسكًا يرتب الأشياء كما يجب أن تكون، وكما تراها عين الذاكرة يعيد خلق “الدهشة” ورغبة اللمس، فتمتد اللحظة لتلتقط جمالاً قد لا يلفت الآخرين بسبب ضيق الخراب المشتدّ حول إنسانيتنا.

Camp 150 X100 cm

لعل طريقته في التمسك بهويته وبذاكرته هي بأن يُسمّر الجمال فلا يتيح له فرصة الذبول يومًا، يخبئه زيتًا على قماشٍ كطفلٍ لن يشيخ. في لوحات شبلوط لا مجال للخسارة، هناك دومًا مأوى، في علبة سردين، في خيمة، وفي رسالةٍ تحمل عنوان بيته القديم هناك في سوريا حيث كل الحرائق لن تتمكن من تشويه الإنسان فيه.

 

كيس نايلون أزرق

لا يحمّل شبلوط لوحته أكثر من طريقته في الرؤية، مواضيعه هي جزءٌ من تاريخ اللحظة التي لا يمتلك منها إلا ارتباطَها بالمكان والضوءِ، وهويته هي عيناه. وكمنفيين تتيح لنا واقعية لوحاته أن نحتفي بالذاكرة، فلا يكتفي الأزرق في لوحته بأن يشفَّ عن خشونة قشرة البرتقال، بل تكاد الرائحة المنسابة من الكيس الممزق أن تخرش شغاف القلب، ولا يتبقى للغائب ما يحتمي به أمام الكيس المربوط على طريقة الجدات أو البائع في آخر الحارة. ولكن في لحظةٍ تالية قد يستطيع المتابع لأعماله أن يرى كم تغير، كيف تساقطت الأسوار والأوراق مع انسدال الغبش على العيون. في لوحةٍ غير مكتملةٍ بعد؛ يتوج عبد الرزاق حبة بندورة صغيرة قاسية وحامضة، على عرشٍ هو مفرش طاولةٍ صغيرةٍ، قد يشتريها أيٌ كان من أي بائعٍ على أي بسطة في الحميدية، ولا شيء هنا يشبهها. ربما ترتعش قدمُه، أو يكاد يترنح على حافةِ الشكُّ والمراثي، لكنه هوَ هوَ، يصرُّ على رسمِ الضوء الذي يغافلُ أغلبَنا حين يعبر.

كيس مثقوب1

مع نهاية شهر أيار سيغادر الفنانون الثلاثة بيت الفن الأوروبي ليعود كلٌ منهم إلى محترفه، محملاً ربما بطيف الحضور المستمرّ للآخرين من جهة، وكثافة المواجهة مع انعزالية المكان والاضطرار للوحدة اللامواربة من جهةٍ وأخرى، وربما مضطرًا لمواجهة التساؤل البسيط “هل أنا أنا؟”.

ما هي أنواع الضرائب في ألمانيا؟

الأسد يصف نظام أردوغان بالفاشي، ويؤكد أن سفك الدماء لن يتوقف إلا باقتلاع الإرهاب