in

اندمجت؟؟؟

باسل الحلبي

يجب أن تندمج! سمعتها في الإعلام، من أبناء البلد، من الأصدقاء ومن الغرباء. (صفنتُ) كثيرًا وفكّرت طويلاً كيف لي أن أندمج؟ مع من يجب أن أندمج؟ وماذا يعني فعليًّا هذا المصطلح “الاندماج” الذي يتكرّر كثيراً دون أن أعرف معناه الحقيقي!

قرّرت أن أندمج، ولكن قبل ذلك عزمت أن أجيب عن تلك الأسئلة التي خطرت ببالي. بدأت بالبحث عن معنى “الاندماج” أو بالألمانيّة “Integration”، فوجدت أن الاندماج في علم الاجتماع هو واحد من أربعة مفاهيم تصف الاحتمالات الممكنة لتفاعل الأفراد مع مجتمعهم الجديد.

حسب علم الاجتماع، فإنّ أيّ فرد ينتقل للعيش في مجتمع جديد، هو أمام أربعة احتمالات: من الممكن أن يتخلّى الفرد عن قيمه الثقافيّة وكلّ ما يرتبط ببيئته من عادات وأفكار ويأخذ بالمقابل القيم الثقافيّة للجماعة الجديدة، بمعنى آخر ينصهر بالمجتمع الجديد وهو ما يسمّى الاستيعاب “Assimilation”.
أو قد يرفض الشخص القيم والأفكار والعادات الجديدة ويرفض الاحتكاك بها. بل يتمسّك بشكل أكبر بقيمه وشخصيّته الثقافيّة أكثر مما كان يفعل عندما كان في مجتمعه، أي رفض للمجتمع الجديد والتمسّك والعودة بشكّل أقوى لمجتمعه الذي نشأ فيه وهو ما يسمّى الانفصال “Seperation”.

الاحتمال الثالث هو عدم تمسّك الفرد بقيمه وأفكاره وعاداته، وبالمقابل عدم قبول القيم والأفكار والعادات الجديدة في المجتمع الجديد. أي الوقوع في عزلة وعدم الانتماء لأي من المجتمعين، وهذه الحالة تسمّى التهميش “Marginalization”.

وأخيرًا نصل لموضوعنا والاحتمال الرابع، هنا يحتفظ الفرد بشخصيّته الثقافيّة من لغة وقيم وعادات دون أن يمنعه ذلك من قبول المجتمع الجديد والتعايش معه وأخذ ما يناسبه من قيم وأفكار جديدة سيتعرّف عليها فيه. في هذه الحالة يعيش الفرد حالة انسجام بالحفاظ على شخصيّته الثقافيّة وبقبول الآخر والتواصل معه في المجتمع الجديد بدون أدنى مشكلة. إنّه الاندماج “Integration”. نستنج أنّ الاندماج لا يلغي أو يستثني طرفًا لحساب طرفٍ آخر، وإنما هو حالة تفاعل وتعايش ثقافي بين طرفين كلّ منهما يملك وعيًا لهويّته الثقافيّة وبنفس الوقت منفتح على الآخر وقادر على التواصل معه.
الآن عرفت معنى أن أندمج! لم يكن أمرًا سهلاً كما تصوّرت. يبدو مفهوم الاندماج أكثر تعقيدًا وعمقًا ممّا يُطرح في وسائل الإعلام ومن كيفيّة تناقله بين الناس. المهم أنّي أدركت معناه الحقيقيّ ووجدت جواب سؤالي الأول. سؤالي الثاني لا يبدو أقلّ تعقيدًا! مع من أندمج؟

مضى على وجودي في ألمانيا سنتين تقريبًا. زرت خلالها مدنًا كثيرة في ولاياتٍ مختلفة. عملت في المشفى، في المحلّات التجاريّة وفي الجامعة. تطوّعت مع عدد من المؤسسات الخيريّة. التقيت خلال هذه المدّة بالكثيرين، ولا أتصوّر أنّني أستطيع أن أضع هؤلاء الأشخاص “الألمان” كلّهم في قالب واحد وأعطيهم صفات واحدة وأطبعهم بطابع معيّن ثم أندمج معهم! من الشرق للغرب ومن الشمال للجنوب وجدت فروقًا كبيرة وكثيرة بينهم كما في أيّ مجتمع آخر. يقينًا إذن، كلمة “الألمان” شاملة جدّاً ولا تعطيني فكرة عن هذا المجتمع الجديد الذي أعيش فيه. قرّرت أن أندمج مع الطبقة التي تناسبني، أنّ أختار أفكارًا وقيمًا جديدة تناسبني وأن أتعلّم من الخبرات الموجودة في هذا المجتمع. في مجالات عديدة تم تحقيق تقدّم كبير فيها سواء علميًا أم اجتماعيًا. بالنسبة لي لا يتعارض انفتاحي واكتسابي لخبراتٍ جديدة مع احتفاظي بهويّتي الثقافيّة وحبّي وإتقاني للغتي ولقيمي الجميلة التي أحملها معي.

فالاندماج لا علاقة له بالأكل أو الشرب أو اللباس أو الأصدقاء، كما أنه عملية يجب أن يشترك بها الطرفان وليس كما يصوّر للبعض على أنه اندماج طرف بطرف آخر. هو – وإن بدا أقرب للمثاليّة و صَعُبَ تحقيقه– الخيار الوحيد للتعايش بين مختلف المكوّنات في المجتمعات الجديدة متعدّدة الثقافات. بهذا النمط من التعايش نتحرّر من قضية الفوز والخسارة، الغالب والمغلوب، الأفضل والأسوأ. بالاندماج لا يوجد خاسر، الكلّ رابح.

أعطني لاجئًا!.. في نقد العقلية التعليمية وثقافة المساعدة

الطب البيطري في ألمانيا..