in

اللجوء والإدمان وما بينهما

الإدمان / اللجوء / اللاجئين
الإدمان / اللجوء / اللاجئين

د جهاد العبد الله. اختصاصي الطب والعلاج النفسي، مركز الطب النفسي عبر الحضارات – برلين
في أوج موجة اللجوء وفتح الحدود المفاجئ، واجه القطاع الصحي في ألمانيا بعض الصعوبات في تدبير الحالات الطبية وكانت من أهمها الصعوبات اللغوية وغياب الوثائق الطبية للقادمين الجدد، إضافةً إلى بيروقراطية إجراءات التسجيل للحصول على بطاقة التأمين الصحي، شكل ذلك ضغطاً كبيراً على القطاع الصحي وبخاصة الإسعاف بسبب أن العديد من المرضى لم يتعرفوا بعد على طبيعة النظام الصحي ولجوئهم للإسعاف كحل سريع لمشكلتهم وخاصة أولئك المصابين بأمراض مزمنة ويحتاجون علاجاتهم وأدويتهم، مما جعل الأطباء في الإسعاف يلجأون للتدبير المؤقت للحالات إلى حين اكتمال الاستقصاءات وتمكن اللاجئين من الدخول في النظام الصحي بشكل نظامي.

لجأت السلطات مثلاً في برلين في فترة الذروة كردة فعل على ذلك إلى إنشاء نقاط طبية في وسط برلين، مهتمة بالتدبير العاجل للحالات والكشف الطبي على اللاجئين وتقديم اللقاحات للأطفال في دور اللاجئين، وعمل في الفريق الطبي طاقم من جنسيات مختلفة ويتكلمون لغات المرضى بالإضافة إلى مترجمين عند الحاجة، مما سهل تقديم الخدمات الصحية للمراجعين وتدبير الكثير من الحالات. شكلت الحالات النفسية تحدٍ من نوع خاص بسبب الفروقات اللغوية والثقافية الكبيرة.

رضوض نفسية من قبل ومن بعد..

إضافةً الى الخبرات الصادمة التي تعرض لها الكثير من اللاجئين قبل مغادرتهم بلدانهم، فإن رحلة اللجوء نفسها عبر العديد من البلدان على طريق الهجرة ومن ثم عوامل عدم الاستقرار وما يسمى الصدمات بعد الهجرة ومنها “الصدمة الثقافية” فاقمت التبعات النفسية على اللاجئين وأدت إلى مزيد من المعاناة أو استفحال الأمراض. 

وتقدر نسبة انتشار الأمراض النفسية وخاصة تلك المرتبطة بالرضوض النفسية بحوالي 50-70% بين اللاجئين، ومن أهم هذه الاضطرابات -حسب دراسة من مركز استقبال الحالات النفسية في برلين- هي: اضطرابات الاكتئاب واضطرابات القلق (القلق العام، واضطرابات الهلع)، اضطرابات الشدة ما بعد الرض واضطراب التأقلم، عدا عن ذلك هناك نسبة غير قليلة من اللاجئين كانوا يعانون في بلدانهم من أمراض نفسية؛ مثل مرض الفصام أو ثنائي القطب الهوسي الاكتئابي أو اضطرابات سوء استخدام المواد والإدمان، والذين حصل لديهم حالات نكس إما لعدم القدرة على الوصول في الوقت المناسب للخدمات الصحية النفسية، أو لعوامل أخرى ساهمت في ذلك تتعلق بالستيغما Stigma والموقف من الأمراض النفسية. 

الإدمان:

تعتبر الأمراض النفسية المتعلقة بسوء استخدام المواد والإدمان، جزءاً لا يقل أهمية عن بقية طيف الأمراض النفسية التي نقابلها بشكل مستمر في العيادات أو في مراكز الاستشارات النفسية، سواء من حيث الأعداد المتزايدة أو شدة وتطور المرض لدرجة تعطل مناحي الحياة بكافة جوانبها عند المصابين. نلقي الضوء هنا على جوانب متعلقة باضطراب استخدام المواد من الناحية الطبية النفسية.
يمكن تعريف الإدمان واضطراب استخدام المواد بشكل عام؛ بأنه مرض ناجم عن تعاطي مادة تؤثر على مخ الشخص وسلوكه وتؤدي إلى الاعتماد على المادة والعجز عن التحكم بذلك. تحدث المادة عادةً تغيرات بيولوجية في مراكز المكافأة بالمخ المسئولة عن الشعور بالمتعة والنشوة والمشاعر الإيجابية، وهذا عادةً في المراحل الأولى من التعاطي، ولكن التأثيرات التي تحدث قد تكون أيضاً غير متوقعة وخطيرة.

تصنف اضطرابات اعتماد وسوء استخدام المواد ضمن الاضطرابات النفسية، بحسب التصنيف الدولي العالمي للأمراض النفسية وفي النسخة العاشرة المعتمدة حاليا ICD10، وتدخل ضمن القسم الثاني من التصنيف تحت مسمى “الاضطرابات النفسية والسلوكية الناجمة عن تعاطي مادة نفسية التأثير” وتتضمن عشرة  بنود حسب تصنيف المواد والأمراض الناجمة عنها. ومن أهم المواد الداخلة في التصنيف الحالي: الكحول، الأفيونات، الحشيش ومشتقاته، المنومات أو المهدئات، الكوكائين، المنشطات والمنبهات، المهلوسات، التبغ، وأخيراً المستنشقات أو المذيبات الطيارة.
المواد المذكورة هنا وتأثيراتها ليست متمايزة بشكل كامل، ويمكن أن تحدث تأثيرات متشابهة فيما بينها، وهي تشترك جميعها وبشدات مختلفة في التأثير على مراكز الدماغ وبالأخص نظام المكافأة وتعزيز السلوكيات. وفي التصنيفات العالمية يتم عادةً حسب شدة التأثر، التمييز بين التعاطي الضار والوصول إلى درجة الاعتماد. 

مراحل التعاطي

المرحلة الأولى:
التعاطي والاستعمال غير المؤذي: مرحلة تعاطي المادة يمكن ألا تسبب للمتعاطي مشكلة في البداية وتعطي مشاعر إيجابية تدفع المتعاطي للاستمرار. وبعد فترة يلاحظ أنه مرتبط بهذه المادة وهو بحاجة لأن يحصل عليها بطريقة أو بأخرى، وصارت همّاً بالنسبة له، وتفكيره يدور حولها وصار الأمر يشغل حيزاً مهماً من نظام حياته، وبنفس الوقت بدأت تسبب له مشكلة مالية، وينتقل تدريجيا للمرحلة الثانية.

المرحلة الثانية:
سوء الاستعمال أو الاستعمال المؤذي: وهنا يؤدي تعاطي المادة إلى حدوث أذيّات جسدية أو نفسية، وأهمها: 

  • إخفاق الشخص في الوفاء بالتزاماته الأساسية في العمل أو المدرسة أو المنزل، متل: الغياب المتكرر أو الأداء الضعيف في العمل والمتصل باستخدام المادة، التوقفات أو التعطيل أو الطرد من المدرسة، أو إهمال الأطفال أو البيت. 
  • ويمكن حدوث خطورة جسدية كما عند: قيادة سيارة أو العمل على آلة في حالة خلل أو عم توازن من جراء استخدام المادة.
  • بالإضافة إلى حدوث مشكلات قانونية معاودة بسبب استخدام المادة، مثل: التوقيفات بسبب سلوك مضطرب ذي صلة بالمادة، أو الاستخدام المستمر للمادة رغم المشكلات الاجتماعية أو الشخصية الدائمة أو المعاودة، والتي تحث أو تتفاقَم بسبب تأثير المادة، مثل الخلافات المستمرة في الأسرة حول المادة أو حتى المشاجرات الجسدية.
    فلو حدثت للشخص أي واحدة من هذه الأمور السابقة بسبب التعاطي، فهذا يعني أن لديه مشكلة سوء استعمال للمادة مما يمكن بعد ذلك أن تتطور إلى المرحلة الثالثة الأخيرة والأخطر من الإدمان والتي نسميها مرحلة الاعتمادية.

المرحلة الثالثة:
الاعتمادية: هذه المرحلة لها خصائص لو توافر بعضها لدى الشخص (وتختلف باختلاف النظام التشخيصي للاضطرابات النفسية) في أي وقت ضمن فترة اثني عشر شهراً متواصلة، فهذا يعني أن لديه اضطراب الاعتمادية والذي يتميز بالخواص التالية كلها أو بعضها:

  • التحمل أو الاعتياد: يؤدي الاستعمال المتكرر للمادة إلى اعتياد الجسم عليها وتحمله لها، فيؤدي به ذلك إلى أن يأخذ كميات أكبر من المادة.
  • الامتناع أو الانسحاب: إذا توقف المتعاطي عن تعاطي المادة أو حتى لربما قلل الجرعة فقط، فسيؤدي ذلك إلى ظهور ما نسميه بالأعراض الانسحابية للمادة.
  • فقدان السيطرة: كأن يتناول كميات أكبر بوقت قصير غير التي خطط لها، أو يأخذ مواد مختلفة أيضاً دون تحكم بذلك. 
  • التفكير المتواصل في التوقف عن التعاطي، والفشل المتكرر في محاولات التوقف.
  • الرغبة الشديدة في التعاطي والاشتياق الشديد لها عند انتهاء مفعولها.
  • النشاطات المرتبطة بتعاطي المادة: يصبح جل وقته ونشاطه مرتبطاً بالمادة والحصول عليها ولساعات طويلة.
  • هجر النشاطات الاجتماعية.
  • الاستمرار في التعاطي رغم الضرر النفسي أو الجسدي الواضح والشديد.
    لهذه الخاصيات أعراض جسدية ونفسية، أهمها أعراض الاعتماد الجسدي (الانسحاب في حال الإيقاف)، والاعتماد النفسي وبشكل أساسي بالرغبة الشديدة في التعاطي. فالإدمان على مادة لا يعني فقط أنني لا أستطيع الاستغناء عنها، بل يمثل مجموعة من الأعراض الجسدية والنفسية والسلوكية المرتبطة بالمادة.

لماذا يحدث الإدمان؟
لا يمكن حصر ذلك بعامل محدد لوحده، فعادةً تشترك العديد من العوامل في التأهب وتطوّر الإدمان، ومنها:

  • البيئة المحيطة مثل العائلة والأهل والأصدقاء، والاعتقادات السائدة والتي تلعب دوراً في تناول المخدرات لأول مرة.
  • العوامل الوراثية والبيولوجية، حيث يظهر بعد التعاطي لمخدر ما أن هناك بعض العوامل الوراثية التي ربما تسرع من تطور المرض ويحدث لذلك في عائلات أكثر من غيرها. 

ويجب إدراك عوامل الخطورة المهمة جداً في الوقوع في براثن الإدمان والتي ترفع من احتمالية التعاطي بشدة وأهمها:
وجود أمراض نفسية كالقلق أو الاكتئاب، تدفع الشخص للتعاطي بهدف التخلص من المشاعر السلبية المرتبطة بالمرض، وللتأقلم مع الأعراض النفسية المصاحبة. ومن ثم تأثير الأصدقاء والأقران وخاصة بالنسبة للشباب الصغار، المشاكل العائلية وضعف الدعم من المحيط، توفر المادة وسهولة الحصول عليها، وأخيراً وجود أمراض جسدية تسبب آلاماً مزمنة مما يدفعهم للتعاطي كطريقة للتخلص من الألم.
يظهر بوضوح من خلال استعراض عوامل الخطر السابقة، أن اللاجئين قد يكونون على درجات عالية من الخطورة في الوقوع في الإدمان، وهذا ما نشاهده في الممارسة اليومية، فالأمراض النفسية التي رافقت اللاجئين تسهم بشدة في لجوئهم للتعاطي للتخلص من كوابيس الماضي وضغوطات المجتمع الموجودين فيه.

وهناك فئة من الشباب الصغار بعمر 14-18 سنة، ممن وصلوا بمفردهم إلى ألمانيا، ولعب دور غياب الرقيب في سهولة استغلالهم من المنتفعين بتجارة المواد المخدرة، سواء بالإغراء أو بالتعاطي بتأثير الجرعة الأولى وتوفيرها مجاناً، ليصبحوا ضحية للتعاطي وربما للإتجار بها.
ينتشر بين اللاجئين -الشباب خاصةً- تعاطي الحشيش، الماريجوانا، إكستاسي، ترامادول، فاليوم، كيتامين، هيروين، مورفين وغيرها من العقارات الصناعية الحديثة، التي تنتشر بأسماء مختلفة والتي تحدث تأثيرات مختلفة على الجملة العصبية وأحياناً جديدة وغير معروفة ضمن الأوصاف الطبية.

تمتد الآثار الناجمة عن التعاطي إضافة إلى الإدمان كالمذكور أعلاه، إلى طيف واسع من الاضطرابات الأخرى النفسية والجسدية ومنها:
حالات التسمم الحاد الناجم عن التعاطي ومنها ما يؤدي للوفاة، حالات السحب الشديدة بعد التوقف عن التعاطي وتكون خطيرة وشديدة في مواد أكثر من غيرها مثل المنومات (البنزوديازيبنات)، إدمان الكحول، حالات الذهان المحدثة بالمواد، فقدان الذاكرة. كما تتيح العدوى بأمراض خطيرة كالتهابات الكبد والإيدز نتيجة استعمال الحقن، عدا الكثير من العواقب المزمنة التي يطول ذكرها والناجمة عن التعاطي.

الخطوط العامة لمكافحة الإدمان 

  • الوقاية الأولية: وهنا تكون الثقافة عاملاً أساسياً في منع تجربة المخدرات أو تعاطيها. 
  • الوقاية الثانوية: باكتشاف التعاطي بصورة مبكرة وإيصال المدمن للعلاج قبل حصول المضاعفات. 
  • الوقاية الثالثية: وهي منع الانتكاس والعودة للتعاطي بعد العلاج والتعافي.
    ومن المفيد ذكره أخيراً أن هناك العديد من المراكز الطبية النفسية ومراكز الاستشارات التي توفر دعماً للمساعدة في التخلص من الإدمان، ومنها ما يقدم خدماته باللغة العربية. وكلما أسرع المتعاطي في الحصول على المساعدة زادت فرصة التعافي طويل الأمد. 

إلى كل من يتعاطى غير مدركٍ لخطورة الوضع ننصحك بمراجعة المختصين أو الاستشاريين العاملين في هذا المجال في حال جوابك بنعم على أحد هذه الأسئلة:

  • هل تفكر بالعقاقير أو الكحول كل يوم؟
  • هل تفشل في مقاومة تناوله عندما يقدم إليك؟
  • هل تتعاطى هذه المواد أو الكحول لوحدك؟
  • هل تعتبر تناول الكحول والعقار هو جل اهتمامك لبقية حياتك؟
أخبار ألمانيا: تفشي خطير لفيروس كورونا في أحد أكبر مصانع الآيس كريم في أوروبا

أخبار ألمانيا: تفشي خطير لفيروس كورونا في أحد أكبر مصانع الآيس كريم في أوروبا

وزير الصحة الألماني يحذر من الانتشار السريع لطفرة كورونا البريطانية في ألمانيا

وزير الصحة الألماني يحذر من الانتشار السريع لطفرة كورونا البريطانية في ألمانيا