in

لجوء حتى حدود الغربة

Roya Issa

سلوى زكزك*
ذات صباحٍ، أدخلتْ سلمى وحيدتها إلى الحمام قسراً، بعد طول تهربٍ وأعذارٍ أعلنتها الطفلة، لتهرب من الاستحمام، الذي تكرهه بشدة.

عشر دقائق لا أكثر، خرجت الأم وابنتها من الحمام، لتجدا غرفة الجلوس، حيث كانت تجلس الطفلة لتتابع أفلام الكرتون، مجرد حطام. شاشة التلفاز، المقاعد، الألعاب، أطباق الفطور، وزجاجة الحليب.
لبستا على عجلٍ، ما توفر من ملابسٍ، دونما أي تناسق، بشعر مبللٍ، ومنكوش، وبرعبٍ لاحدود له، خرجتا من المنزل، لتعودا إليه فوراً فحال مدخل البناء، والرصيف، والشارع، لا يحتمل، جثث في الطريق، وصراخ وعويل.
قررت سلمى الرحيل، في المساء باعت مصوغاتها المتبقية. في صباح اليوم التالي قدمت استقالتها، ورحلت نحو بيروت، فتركيا، حتى وصلت ألمانيا.
لم يرافقهما إلا الرعب، صور الجثث، متاع البيت المصفف على عجلٍ بصناديق كرتونية، ومرحّل إلى سقيفة بيت الجدة، التي لم تعرف بقرار السفر حتى وصولهما إلى بيروت. هدير البحر، ارتجافات الجسد الغض للطفلة في حضن الأم الأكثر ارتجافاً.

كانت شروط مركز الإيواء مرعبة

لا خصوصية، لا نظافة، لا طعام. نكهة الطعام المتروك هناك، مطعَّمة بالتراب، ونثار الزجاج المحطم. كل صباحٍ، كان على الأم أن تقنع طفلتها، بأن الحدائق هنا أجمل، والألعاب أنظف. تغيرت هواجس الأم إلى رُهابٍ عميق، بيدها عبوة الديتول، لتعقم المرحاض قبل كل استعمال، تمسح قبضات الأبواب، وتغسل ملابس الطفلة القليلة. ملابس لا تدفئ أوصالها الباردة، لأنها لا تصلح لكل هذا الجليد، ملابس لا تجف بسرعة، واليدان الآدميتان صارتا كقطعتي خشبٍ صلدٍ ومفولذ.

مشكلة التواصل واللغة، كانت عقدة المنشار، الخوف من شركاء مركز الإيواء، من وجوههم الغريبة، ولغتهم غير المفهومة. ثمة روائح غير أليفة للأجساد، للأنفاس. اختلاف بالحاجات، وبطريقة العيش.
وجبة موحدة، عيون جامدة، وإن أبدت اللهفة، لكنها تملك نفس الإتراب، نفس التساؤلات والمخاوف، فلطالما لم تكفِ اللهفة، وروح النجدة للمسعفين، لبثّ الطمأنينة لدى ضحايا اللجوء، ومحتاجي الإسعاف، ولدى المسعفين أنفسهم.

تعيش سلمى مع طفلتها اليوم في شقة صغيرة، الطفلة تذهب للروضة، نسيت اللغة العربية. كل من عبر بحياتها هناك، صار مجرد أطياف هشة الحضور. الأم تدرس الألمانية، تشعر بالإرهاق مع كل حرفٍ. شهادتها الجامعية لا تؤهلها للعمل باختصاصها، تشتاق لأمِّها الوحيدة، التي لن تسامحها على كذبة اللجوء، ولا على التنكر لوعدها بالبقاء قريبةً منها، ورعايتها في شيخوختها المطعمة بالمرض والتعب، وخيبة التنكر والوحدة.

يبدو سؤال العودة من عدمها، هو سيد التساؤلات،

وماذا عن مستقبل الطفلة؟ وماذا عن تأمين عمل في سورية، وشروط العيش، وغلاء المعيشة؟ ماذا لو توفيت الجدة وحيدةً هناك؟ كل الأسئلة تعبر للحظات، وتتوقف تحت إرغام اللحظة القاهرة، موعد درس اللغة، الامتحان الشفهي، موعد الحضانة، الموعد الطبي المؤجل لثلاثة أشهر أخرى، بسبب تأخر طارئ عن الموعد الأصلي. خيارات العمل المضني، وإصلاح الشقة، وشراء غسالة جديدة.

مابين هجرة من مكانٍ إلى مكانٍ، وعدم الثبات في أي منهما، وما بين الشوق والضرورة، ما بين اليوم والأمس، وكل المتاحات غير الطوعية، لدرجة تصبح فيها قيداً، تقبّل سلمى ابنتها كل صباحٍ، حين تودعها على باب دار الحضانة، وتُرجئ الأجوبة كلها، علّ قراراً افتراضياً وإجبارياً يطرأ بحكم الصدفة، أو الفرصة، أو الضرورة،  يغيّر الحال والأحوال، ويهدئ صخب الأسئلة.

*سلوى زكزك. كاتبة من سوريا

اقرأ/ي أيضاً:

اللاجئون بين الاندماج وحلم العودة
الوجه السعيد للمنفى
خوفٌ مؤنث على هامش الحرب والمنفى
“ذاكرة باللون الخاكي”.. فيلمٌ عن الخسارات والغضب

بالفيديو: تبولة، حمص، ورق عنب… أصبحت الآن أطباقاً إسرائيلية، فما موقفك؟

قانون التظاهر في ألمانيا.. وماذا يحدث في حال استعمال العنف من قبل أي طرف؟