in

اللاجئون بين الاندماج وحلم العودة

اللوحة للفنان رياض نعمة

محمد داود.

 شابٌ سوري لاجئ حصل على الإقامة بعد أشهر من وصوله، ثم استطاع لم شمل عائلته المكونة من زوجته وبناته الثلاث، واستطاع أيضاً الحصول على بيت ليقيم فيه مع عائلته. كل هذه الإيجابيات التي لم ينلها لاجئون كثر هنا بهذه السرعة لم تقنعه بعدم العودة إلى سوريا.

فهو لايريد لبناته -والكبيرة منهن تبلغ سبعة أعوام فقط- أن يكبرن في هذا المجتمع الإباحي والملحد كما يراه، ولم تستطع كل محاولاتنا نحن أصدقاءه المقربين أن تقنعه بالعدول عن قراره الذي نفذه بسرعة. تعيش زوجته وبناته الآن في اللاذقية بينما يقيم هو في تركيا لأنه ممنوع من العودة إلى سوريا في الوقت الحالي.

صادفت لاجئين سوريين وفلسطينيين كثر لم يتمكنوا بعد عدة سنوات من حصولهم على الإقامة وحتى الجنسية، من الاندماج والتحدث بلغة البلد لصعوبتها من جهة، ولعدم وجود برامج عملية  في المدارس تمنحهم فرصاً حقيقية في التعلم، والأهم لعدم رغبة بعضهم بالتفاعل مع هذا المجتمع الذي يرونه غريباً تماماً عنهم، في العادات والتقاليد والحالة الدينية والحريات الشخصية، وبالأخص وضع المرأة الذي لم يستطع العقل الشرقي النائم لقرون طويلة في الحرملك أن يستوعبه.

كما أعتقد أن كثيراً من اللاجئين القادمين من سوريا لم يدركوا بعد حقيقة وضعهم، وحقيقة أن سوريا حالياً ممزقة يتقاسمها ذئاب العالم، ولن يكون بالإمكان العودة إليها والحياة فيها بشكل طبيعي على الأقل في السنوات العشر القادمة، وربما أكثر بحسب ما يريده أسياد العالم. وعليه فهم لم يهيئوا أنفسهم لبناء حياتهم في المجتمع الجديد، وعلى الأغلب لم يفكروا بأن هذه البلاد قد تكون وطنهم الوحيد لما تبقى لهم من حياة. وهذا مايدعم إحساسهم بعدم الاندماج وعدم الرغبة في التفاعل الحقيقي مع سكان هذه البلاد.

وفي حالة مشابهة نوعاً ما -رغم الفروقات الإثنية والدينية التي نلمسها في أوروبا- نرى أن عدم القدرة على قبول الواقع المفروض نتيجة ظروف خارجية قاهرة كالحالة الفلسطينية، حدث قبل سبعين عاماً واستمر مع عدد كبير من الفلسطينيين اللاجئين إلى سوريا أو دول الجوار.

فعلى سبيل المثال لم يستطع والدي بعد أكثر من أربعين سنة عاشها في سوريا أن يتكلم ولو كلمة واحدة باللهجة الدمشقية حيث عاش، ولم يشترِ بيتاً ولم يبنِ ولو غرفةً صغيرة تغنينا عن دفع الإيجار الشهري، وكان سببه المعلن الدائم أننا لن نتخلّد هنا فنحن سنرجع حتماً إلى فلسطين ولن ندع شيئاً يربطنا بأرض أخرى.

كان طموحه -الذي يراه ممكناً- هو أن يعود إلى الأردن التي خرج منها عام 1970 إثر معارك أيلول، ومنها يعود إلى فلسطين التي غادرها عام 1967. وماحدث حينها وعلى الأغلب أنه سيحدث لاحقاً هنا؛ أن الجيل الثاني والثالث من هؤلاء اللاجئين صار أكثر قدرة على الدخول في صلب المجتمعات الجديدة حتى غدا واحداً منها تكاد لاترى فروقاً واضحة بين السكان الأصليين وبين أبناء أو أحفاد الوافدين.

على الرغم من التشابه في الحالة القومية والدينية والكثير من العادات الاجتماعية واللغة في دول جوار فلسطين، إلا أن الفلسطيني كان مختلفاً بشكل دائم عن محيطه خشية النسيان وخشية الإقرار الداخلي لديه بأنه لن يعود.

لاشكّ أن خصوصية الحالة الفلسطينية مختلفة قليلاً عن رغبة الاندماج لدى لاجئي أوروبا، إلا أن السبب واحد وهو عدم قبول الواقع الجديد ورفضه المتمثل برفض الاندماج في المجتمعات.

على جانب آخر ترى لاجئين كثر قد تفاعلوا مع محيطهم الأوروبي الجديد ولديهم رغبة في العيش المشترك، والتماهي مع العادات الاجتماعية الجديدة، وتمثلت هذه الرغبة في سرعة تعلم لغة البلد المضيف والاستمرار في الدراسة والانخراط في سوق العمل، وفي نفس الوقت ترى أن هؤلاء لم يتخلوا ولو للحظة واحدة عن حلمهم بالعودة. هذه الحالة الإيجابية قد يكون سببها الرؤية الواقعية لحياتهم، والتخلي عن النزعة الرومانسية والعاطفية التي كثيراً ما تغيّب عن العقل آليات رسم طرق جديدة للحياة.

تبقى نقطة هامة وهي عدم قدرة الحكومات الأوروبية على استيعاب الكم الكبير من اللاجئين الواصلين إليها في فترة وجيزة، فحصل تقصير في آليات عمل الهيئات الإدارية في المدن الأوروبية، في دراسة الحالات النفسية كثيرة التعقيد لمجتمعات الشرق الأوسط، مما انعكس في عدم القدرة على اعتماد أساليب أو قوانين تزيد من إمكانية دمجهم، على الأقل في الفترة المسموح لهم بالإقامة فيها وبالتالي لم تتمكن من استيعابهم بالشكل الأمثل.

محمد داود. كاتب فلسطيني سوري

اللوحة للفنان رياض نعمة

اقرأ أيضا:

لاجئون وأكثر

أحلم أن أنتخب

عن الذاكرة والخذلان: القدس ـ دمشق

 

“من مفكرتي” لهيرمان هيسّه -2-

خولة: مؤنثٌ عربيّ بمعنى الظّبية التي لا تَقوى على المشي