in

الديمقراطية في مهبّ الجائحة

ألمانيا: الديمقراطية في مهبّ الجائحة
ألمانيا: الديمقراطية في مهبّ الجائحة

ميس محمد غيبور. ماجستير محاسبة من سوريا مقيمة في ألمانيا
ما أن تَلوح أزمة في الأفق حتى تتصدّر الديمقراطية قائمة المُعَرَّضين للخطر، بل يوضع النظام الديمقراطي برمتّه على المحكّ في قدرته على الموازنة بين الحرية الفردية والمصلحة العامة. 

لم تكن جائحة كوفيد 19 استثناء، فقد اتُّخِذَت من قبل العديد من زعماء العالم كذريعةٍ لقمع الحريات ومنع التظاهرات وفق مقالٍ في صحيفة الإيكونوميست بعنوان “تآكل الديمقراطية وحقوق الإنسان في ظل الجائحة”، حتى أن أنظمةً في دولٍ متقدمةٍ كَأميركا وبريطانيا وفرنسا اضطرت إلى إعلان حالة الطوارئ بعد انهيار أنظمتها الصحية مع سرعة الانتشار، في حين تمكنت ألمانيا من السيطرة على الجائحة، التي اعتبرتها المستشارة ميركل تحدٍ للنظام الديمقراطي ووصفتها بِأسوأ أزمةٍ تتعرض لها البلاد منذ الحرب العالمية الثانية، بدون أن تضطر إلى إعلان هذه الحالة.

فما الذي تغير في ألمانيا بمساعدة المجتمع الدولي بين هاتين الكارثتين؟ وما هي العوامل التي مكّنتها من الحفاظ على الديمقراطية خلال الجائحة؟ وما الذي دفع الشعب الألماني إلى التخلي عن حقوق دستورية خلالها؟
إن التعاون بين الحكومة الألمانية والشعب مكنّهم من احتواء المرض، ولم يكن هذا التصرف وليد اللحظة إنما تكوّن عبر العقود من تفاعل عدة عوامل مع بعضها هي الدستور والقانون والتعليم والتضامن والثقة السياسية بالإضافة إلى عوامل أخرى تتميز بها ألمانيا كَالتنظيم أو تنفرد بها كالتجربة التاريخية.

يركّز الدستور في ألمانيا الذي دخل حيز التنفيذ في العام 1949 على حقوق الإنسان، فَالعبارة الأولى فيه هي “كرامة الإنسان مصونة”، تفسّر بأن الدستور يحمي جميع الحقوق الإنسانية. هذه الفقرة محميّة من خلال “بند الخلود” ولا يمكن تغييرها. وينص القانون على العديد من العقوبات الرادعة للتعدّي على الآخرين أو ممتلكاتهم أو التحرش بهم جنسياً أو لفظياً، ولا يتطلب تدخّل الشرطة لحماية المرأة أو الطفل من العنف المنزلي الشكوى من الضحية، بل يكفي أن يبلغهم الجيران في حال سماعهم صراخاً. ويمنع القانون الإيذاء البدني والنفسي للطفل وقد يصل الأمر إلى سحب حق الرعاية من الوالدين، في المقابل تقدم الحكومة دورات مجانية لتعليم الأهل أساليب تربية خالية من العنف.

التعليم إلزامي لمدّة اثني عشر عاماً والمدارس والجامعات الحكومية مجانية في جميع الولايات. ويحظى الطلاب بتعليم نظري وعملي متقدّم ومتنوّع في مختلف العلوم والمجالات المهنية. ففي المرحلة الابتدائية، يتعلم الطفل الأخلاق ومبادئ السياسة والإعلام والحاسوب إلى جانب المواد الأساسية. ويتميّز التعليم الثانوي العام والفني بأنه ملائم لمتطلبات سوق العمل ومُرتبط به مباشرةً من خلال التدريب الفني المتاح في ورش تدريبية في الشركات أو نظام التعليم المزدوج (دراسة وعمل معاً)، ويخضع التعليم الثانوي للتحديث باستمرار. 

ويتم في رياض الأطفال والمدارس بناء الطفل على الصعيد النفسي من خلال محاورته وتشجيعه على التعبير عن رأيه وتعزيز ثقته بنفسه، وعلى الصعيد الاِجتماعي عبر تعزيز قدرته على التواصل مع الآخرين وتربيته على حل الخلافات بالحوار ونبذ العنف. ولا يكتفي المشرّع بمنع التعنيف في المدارس، بل يتعداه إلى إلزام المعلّمين بإبلاغ السلطات المختصة في حال ملاحظة آثار عنف منزلي على الطفل. وفي حالة مخالفته للتعليمات يتم استخدام أساليب عقوبة خالية من العنف تهدف إلى إصلاح سلوكه. وتجدر الإشارة إلى أنه عند فرض الحجر المنزلي، تمت متابعة التعليم بمرونة عبر شبكة الإنترنت.

تعتبر الثقة السياسية سمة مجتمعية وليست فردية فهي تمثّل التوجه العام للمواطنين نحو الحكومة وتشير إلى وجود توافق في الآراء بين أفراد المجتمع حول القيم والأولويات المشتركة والاختلافات، وإلى القبول الضمني للمجتمع الذي يعيشون فيه. وقد أظهر استطلاع للرأي نشرت نتائجه في شهر آب المنصرم ارتفاعاً في ثقة المواطنين الألمان في الحكومة وفي المؤسسات السياسية وفي العديد من الشخصيات السياسية على رأسهم السيدة ميركل، مقارنةً بِاستطلاع أُجرِي في شهر كانون الثاني من هذا العام وفق صحيفة دويتشي فيلليه.

وفي إطار الثقة يرى “بوتنام” بروفيسور العلوم السياسية، أن المواطنين الواثقين يكون لديهم تفاؤل بشأن المستقبل وأكثر احتمالاً أن ينضموا إلى جمعيات خيرية وأن يتطوعوا بوقتهم لإسعاد الآخرين، والاهتمام بمشكلات المجتمع وبٍالتصويت، وهم أكثر تسامحاً مع الأقليات الاجتماعية والسياسية، وأكثر قبولاً لاختلاف أنماط الحياة. وهذا بدوره يفضي إلى مفهوم التضامن، فقد تضامن أكثرية الألمان الأصحاء مع الأقلية من المسنين والمرضى عبر الالتزام بالحجر متنازلين عن حقٍ دستوري (حرية التنقّل)، وتقيّدوا بِالاتصال بالطبيب في حال الشعور بالأعراض بدلاً من الذهاب إلى المشفى مما حدّ من الانتشار، بالمقابل قدمت الدولة لهم الفحوصات والرعاية الصحية اللازمة مجاناً، إذ تقف ألمانيا كدولة اجتماعية إلى جانب المواطن الذي يعاني من مأزق إنساني أو بطالة أو مرض أو تقدّم في السن، حتى أن مخصصات النظام الاجتماعي تلتهم أكثر من نصف ميزانية الدولة السنوية وفق DW.

بالإضافة إلى عوامل أخرى كَالإدارة والتخطيط والتنظيم والانضباط والمرونة فقد قال رئيس معهد برلين الصحي أكسل رادلاخ برايس بأن المؤسسات البحثية بدأت تعمل يداً بيد منذ اندلاع الجائحة على تأسيس أنظمة بحثية في أرجاء البلاد، حيث لعبت الحكومة دوراً جامعاً عبر توحيد كل الأقسام الطبية في الجامعات الألمانية ضمن مجموعة عمل موحّدة. وتطرّق البروفيسور إلى أهمية اعتماد ميركل، الحاصلة على دكتوراه في كيمياء الكم، بقوّةٍ وعلانيّةٍ على خبراء من منظمات البحث العلمي التي تنال بالأساس تمويلاً سخيّاً من الدولة، وإلى أهمية التواصل الشفاف مع أعلى مستويات القيادة خلال فترة الانتشار. وقد برزت أيضاً متانة ومرونة النظام الصحي عبر إجراء الاختبارات والعلاج المبكر والواسع النطاق، فقد تمّ استقبال حالات حرجة لِمرضى بفيروس كورونا من الدول المجاورة.

لقد ترك وصول هتلر إلى سدّة الحكم في القرن الماضي عن طريق الانتخابات ومن  ثم قيامه بالقضاء على النظام الديمقراطي الذي أوصله للحكم أثره في النفوس، على الأقل من خلال امتناع الأجداد عن القيام بالمهمة الوحيدة المتبقية للمسنين وهي سرد الحكايات، وقد ورّث هذا الصمت الأبناء والأحفاد إحساساً بالندم ورغبةً بالتكفير عن ذنبٍ لم يرتكبوه. وظهرت هذه التجربة بوضوحٍ في الدستور، إذ تُعرّف الفقرة الاولى من المادة 20 ألمانيا كـ “جمهورية ديمقراطية واجتماعية”، وتعطي الفقرة الرابعة منها الحق لكل الألمان بمقاومة أي كائن يحاول القضاء على هذا النظام. وينص قانون الانتخابات على ضرورة حصول الأحزاب المشاركة في الانتخابات على 5% من أصوات الناخبين كحد أدنى، كي تشارك في البرلمان.

إن وجود هذه العوامل ولا سيّما التعليم، يخلق لدى الشعب حدّاً أدنى من الوعي كافٍ لفهم المناخ السياسي وتقييم أداء الحكومة، والثقة بها في حال شفافيتها وتنفيذها لوعودها، لتصبح أوثق مصدرٍ يستقون منه معلوماتهم مما يدفعهم لِلالتزام بتعليماتها، بالمقابل فإن هذا يجعل الحكومة تثق بهم فلا تضطر إلى إعلان حالة الطوارئ حتى وقت الطوارئ. وقد صرح البروفيسور هانز جورج كروسليتش، رئيس قسم علم الفيروسات في المستشفى الجامعي في هايدلبرغ لصحيفة نيويورك تايمز: “ربما تكون أكبر قوة لدينا في ألمانيا هي اتخاذ القرار الرشيد على أعلى مستوى في الحكومة، إلى جانب الثقة التي تتمتع بها الحكومة بين السكان”.

في حين أن غياب هذه العوامل أوعدم تفعيلها يفسح المجال لصعود حركات اليمين المتطرّف وهذا ما حدث منذ أربع سنين عندما أتت الديمقراطية بِترامب إلى سدّة الحكم، الذي ارتفعت في عهده معدلات جرائم الكراهية ضد الأقليات قبل وأثناء الجائحة، إلا أن الديمقراطية سلاحٌ ذو حدين، فهي أيضاً جاءت بِأنغيلا ميركل التي لم تكتفِ بحثّ شعبها على التضامن في مواجهة الجائحة، بل أكدّت أنه لا يمكن السيطرة عليها بِدون تضامنٍ وتعاونٍ على المستوى الدولي، والتي عبرت بشعبها الموجة الأولى من الجائحة وتواجه الثانية بدون الإغلاق الكامل، فهل ستنجح ألمانيا في ذلك؟ وهل ستستمر في الحفاظ على الديمقراطية خلالها، وقد بدأت دولٌ أوروبيةٌ بإعادة فرض حالة الطوارئ؟

أخيراً قال باراك أوباما: “تتطلب الديمقراطية وعياً أساسياً بالتضامن” وبتصرّفٍ أقول إن الديمقراطية لا يمكن أن تعمل بدون وعيٍ أساسيٍ بالتضامن. فهذه العوامل ضروريةٌ لخلق وعيٍ فكري فردي وجماعي يُنتِجُ حِسَّاً بالمسؤولية ويُتَرجَم عملاً مشتركاً لخدمة المصلحة العامة والدستور. وعيٌ كافٍ للحفاظ على الديمقراطية حتى وقت الأزمات.

الناشطة السعودية لجين الهذلول

إدانات دولية لحكم السجن الصادر بحق الناشطة السعودية لجين الهذلول

زيادة قوية في حالات التمييز العنصري في ألمانيا خلال جائحة كورونا

زيادة قوية في حالات التمييز العنصري في ألمانيا خلال جائحة كورونا