in

الاغتراب في المنافي اللغوية المتكرّرة: تجربة كاتب بعد منافٍ أربعة

اللوحة للفنان عمران يونس omran.a.younis

بقلم: رستم محمود*

كتجربة شخصية، وقبل الخضوع لتجربة المنفى الجُغرافي والجسدي المُطلق بعد عامٍ من اندلاع الثورة، كان ثمة ثلاث طبقات، أسمّيها: ظِلال المنافي النسبية، أثّرت على عملي وانخراطي في فعل الكِتابة، وأثرت فيما بعد على تجربة المنفى الرابعة التي خضتها.

فمن جهة كُنت شخصاً قادماً من ذاكرة لغوية غير عربية، لكني “مُجبر” على الكتابة باللغة العربية. فاللغُة الكُردية شكّلت الذاكرة والذات اللُغوية العميقة بالنسبة لي، وغطّت كامل طفولتي والعالم الاجتماعي المُحيط بيّ. كُنت مُجبراً على التخلي عنها لصالح لُغة أخرى، وهو ما شكّل الشقاق الأولي بين عالمين لغويين في ذاتي: الكُردية كفضاء ومجال عام للوجدانيات الاجتماعية والحسية، والعربية كمركز للتفكير والاصطلاحات والتعابير المعرفية. خلق ذلك نوعاً من المنفى اللُغوي. فقد كُنت طوال السنوات الأولى للعمل في الكِتابة “أتكالب” لكشف تفاصيل ورموز وشيفرات عالم اللُغة العربية، التي كُنت أراني غريباً عنها بمعنى ما، منفياً عن روحها الأعمق!

خلال سنوات الدراسة الجامعية، وبعد الانتقال من القامشلي إلى العاصمة دمشق، كانت الطبقة الثانية من الاغتراب/ المنفى تتسرّب إلى ذاتي. ففي دمشق، في مقاهيها وجامعتها وأوساط العاملين في المعرفة والثقافة، صرتُ كشابٍ قادماً من الجغرافية السورية القصية، أكتشف فاعلية ودور القرابة والعلاقات الاجتماعية والمرجعيات الأهلية في تحديد وسلاسة الانخراط والفاعلية في تلك الأوساط والمؤسسات. كان ثمة دوائر شبه مغلقة، لأصحاب النفوذ والمركزية والعائلات الثقافية المُمتدة، بعدما صارت المعرفة والثقافة في سوريا مثل غيرها من العوالم، وراثية وتنتقل بالمنح، لا بالجدارة! كان لذلك النفي استثناء هامشي صغير، وهو النشاط في الأوساط الثقافية المُعارضة، التي كانت ديمقراطية وفسيحة ومتسعة لكُلِ مُساهم، أياً كانت هوية ومرجعية وجُغرافية هذا المُنخرط.

لم تمضِ سنوات كثيرة للدراسة والتجربة الكِتابية، حتى اكتشفت نفسي منفياً بالمعنى الوظيفي. إذ كُنت صحفياً وكاتباً، أعيش في مدينة صاخبة وبلد مركزي سياسياً وثقافياً لكنه خال من الأنشطة الثقافية والمؤسسات الصحفية ذات المعنى والمضمون، الأمر الذي اضطرني، ومثلي الكثير من الكُتاب والصحفيين السوريين، للعمل في الصحافة والثقافة اللبنانية، التي شكّلت مُتنفساً للكثيرين من واقع الجفاف السوري الذي كُنا نعاني منه.

خلقت طبقات المنفى الثلاث الأولى تجربة وجدانية عميقة بداخلي، كان الألم المتأتي من التهميش والعزل أداة أولى لتشكيل الضمير الداخلي، الذي يرى العالم من هامشه ومناطقه الأكثر “حقيقية”، باعتبارها المناطق الأكثر تعبيراً عن شكل ومُحصلة علاقات القوة، بين المُهيمنين والمُهيمن عليهم.  

بعد قُرابة سنة من اندلاع الثورة، خضت تجربة المنفى بالمعنى المُطلق، إذ غادرت سوريا واستقر بي المقام في باريس. كانت تلك التجربة الجديدة منفى مُطلقاً، فسابقاتها كانت تجارب رمزية ونسبية ومجالية، ففي المُحصلة كُل طبقات المنافي السابقة بقيت في سوريا، ضمن نفس النسيج المُجتمعي واللُغوي والرمزي والسياسي الأولي الذي خُلقت ضمنه واكتسبت ذاكرتي وخبرتي الحياتية. عكس التجربة الفرنسية، التي كانت اقتلاعاً بدنياً وذاتياً من كُل تلك العوالم، أو محاولة من قِبل المنفى لأن يفعل ذلك بيّ.

لكن الخبرة الشخصية في تجارب المنفى السابقة مكّنتني من تنفيذ ثلاثة قرارات/ألعاب حمتني وحمت تجربتي الكِتابية، كما أعتقد أو أتوهم، من احتلال المنفى لها وهيمنته عليها.

إذ كُنت متيقناً أنه لا مكان للغة أخرى في عالمي اللغوي، إذ لم أكن أقوى على اجتراح مارثونٍ حياتي جديد لتعلم اللغة الفرنسية، وأن أضطر لشغل الكثير من الأوقات والمرارة لاكتشاف أسرار وفيزياء هذه اللغة، في وقتٍ أملك لغات أخرى أستطيع عبرها سبر واكتشاف ما أرغب به من معارف ومُنتجات ثقافية. كان قراراً وجدانياً مُطلقاً، لم أتردد تجاهه قط، وكُنت متيقناً بأنه لن يؤثر على قُدراتي ومستوى ما أعتقد أني أستطيع إنتاجه من بحث معرفي ومنتج ثقافي.

الأمر الآخر تعلّق برفض الانتماء والانبهار بمركزية ثقافية معرفية جديدة. صحيح أن فرنسا، والفضاء الأوروبي عموماً، يملك الكثير من الإغراء في ذلك الاتجاه، وهو أمر اكتشفته مُنذ سنوات عبر القراءة الدائمة لما كتب عنه المؤرخ والمفكر “إيريك هوبزباوم” عن تاريخ وحيوية هذه الجُغرافيا الاستثنائية في الفعل والتاريخ البشري، لكن رفض ومقاومة الانبهار بالنسبة لي، خصوصاً في الكتابة والتفكير، كان متأتياً مما جربته قبل سنوات من فرض المركزية الدمشقية لنفسها على الجهويات السورية الأخرى، التي كُنت قادماً من واحدة منها، خصوصاً في المعرفة والثقافة وأدوار النُخب، تلك المرارة التي لم تغادرني قط!

أخيراً، فقد منحتني التجارب الأولى خبرة لرفض الانشغال والكتابة بغير المكان والفضاء الذي اعتبره عالمي وقضيتي الخاصة، سوريا ومسألة شعبها. فكما بقيت سنوات أعمل في الصحافة اللبنانية والخليجية، لكن أكتب عن سوريا وقضاياها، بقيت كذلك طوال سنوات منفاي المُطلق.

كانت تجربة سنوات المنفى، وما تزال، تجربة ثراء ذاتي، لكني بقيت محافظاً وحامياً لنفسي ضد ما اعتقدته هيمنة لهذا المنفى عليّ، وعلى تجربتي في الانتاج والانشغال بالكتابة المعرفية والثقافية.

رُبما لذلك “التحدي” الذي خُضته بوعيٍ مع المنفى “مضارٌ” كثيرة، لكن لو كان له فائدة واحدة، فهي منحي القُدرة الكاملة لإنهاء المنفى بأي وقتٍ، وكسب ذاتي ومكاني الأولي مجدداً: العودة للبِلاد وناسها.

 

*كاتب سوري كردي مقيم في أربيل

خاص أبواب

إقرأ/ي أيضاً:

عن الفنون التي لا تنام في المنافي! آراء ثلاثة مبدعين سوريين في الفنون وتغييراتها في المنافي

في تبديل المنافي والاغترابات / كوابيس لاجئ سوري 1

عن مخيم اليرموك وقلوب مليئة بالشظايا… كوابيس لاجئ سوري 3

المنفى الوحيد كان الوطن… كوابيس لاجئ سوري 2

المخرجة السورية “سؤدد كعدان” تفوز بجائزة فينيسيا عن فيلمها: “يوم أضعت ظلّي”

انتظار