in

المنفى الوحيد كان الوطن… كوابيس لاجئ سوري 2

اللوحة للفنانة هبة العقاد Facebook /Heba.Alakkad.Art

*عمر دياب

هذا النص جزء من نص طويل سينشر تباعاً

لم تكن دمشق حبي، كانت كذلك منذ زمن بعيد. في سوريا الثورة تغيّر الكثير، دمشق التي أحبها هي تلك البقع التي خرجت منها مظاهرات “طيارة”، تلك الشوارع الصغيرة التي امتلأت باللافتات والمنشورات قبل أن نرميها، تلك الأحياء التي صدحت لأجل حمص ودرعا ودير الزور، أولئك الشبان الذين كانوا يخجلون أن يسِمَهم الآخرون بأنهم أبناء مدينةٍ صامتة. الصمت في الثورات هو أكبر عار يمكن أن يسبغك خلال حياتك!

دمشق كانت تعني لي الجامعة فيما مضى، أيضاً لم تعد تعنيني العلامات والشهادات، كان يعنيني رفاقٌ موسومون بالتمرد، رأيت شباناً يجوبون دمشق من كفرسوسة إلى برزة وركن الدين معضمية وداريا والميدان ومخيم اليرموك والقابون، لا يضعون لثاماً ولا يختبئون خلف أسماء وهمية، يهتفون من الرئتين لا من الحنجرة، يصرخون ويمزقون صور الطاغية التي ألصقتها على الجدران أياد حاقدة.

تغيرت حياتي وتضاربت الأفكار في رأسي، حراك الزبداني أقوى وأسرع بكثير مما يجري في دمشق، في جامعة الحقوق كانت الصرخة الأولى بالنسبة لي، أمسكنا أيدي بعضنا صفاً واحداً وهتفنا للشهيد الذي قضى في مظاهرة كلية العلوم قبل أسبوع، كنا تائهين جداً، لم نحسب خياراتنا جيداً، ولم يراودنا أي هاجس، سوى أننا كنا من الضالين. كنا التائهين والمخذولين، نحن الذين تجرعنا الخسارات، نتمسك بكل خيط جديد ونعود لننكسر مرة أخرى.

كثيرة هي المرات التي نعتنا أنفسنا بالحمقى وإننا لم نفكر جيداً، الحقيقة أننا فكرنا كثيراً ولم نتوقع هذه اللحظة. لكننا في ذاك الزمن لم نكن نحسب خسائرنا، ولم نتعلم العد! في تلك الليلة كان علينا أن نخرج من الجامعة لنهتف: فكّوا الحصار عن درعا، ولم ننتبه للوقت الذي علينا استغلاله، لم تكن مظاهرة محكمة مثل التي بعدها بسنة. صديق لي قال إننا استمرينا 20 دقيقة، آخر ذكر أنها نصف ساعة. كنا خارج الوقت حيث الزمن أوقف كل شيء ليستمع لصراخنا. كانت الساحة مكتظة بالناس مثل يوم المجزرة أو كانت فارغة قاحلةً كصحراء، ببساطة لم نكن نتجاوز المائة.

أول صدام حقيقي كان في الجامعة، مئات الشبيحة مع جنازيرهم وعصي الكهرباء، يضربون طلاب الطب البشري الذين ارتدوا مرايلهم البيضاء وحملوا الورود وكتبوا مطالب عادلة. الدم يسير في الأرض ولا متسع من الوقت للتفكير أيهما أنجع المقاومة أو الهرب، أو ربما محاولة إنقاذ الشباب الذين افترشوا الأرض. أحد أصدقائي انفتح رأسه ونزف دماءً غزيرة، استطعت أن أسحبه من بين الجموع، خلعت الرداء الأبيض ومشينا معاً إلى حديقة الصيدلة، كانت هناك طالبتان عملتا على مساعدتنا وتدارك الموقف، على أية حال هذا الموقف كان كافياً لأتخذ قراري: لا يمكن أن أتخرج من جامعة تضرب أبناءها!

الثورة مشتعلة، كل يوم تنضم نقطة جديدة والمظاهرات تجوب البلاد. كان توقعي مثل كثيرين أنها مسألة وقت، وحين ننهي الثورة سندرس في سوريا الحرة. تغير برنامج حياتي، المحاضرات وجلسات العملي في الجامعة كانت مجرد أماكن لألتقي فيها أصدقائي فنخطط أين ستكون موقعة اليوم؟ لم يعد يعنيني أي شيء في تلك الفترة، كان همي الوحيد أن نصنع أكبر قدرٍ من الفوضى وخلخلة دمشق التي يمر يومها رتيباً دون أية صرخة. كان في جواري سوريين كثر من كل بقاع الوطن، الوطن الذي أحسست به لأول مرة.

لم نكن نخاف، بالطبع كان الموت والاعتقال هاجساً، لكنني أذكر حين أمسكنا أيدي بعضنا على بعد 50 متراً من قوات حفظ النظام أمام مقبرة كفرسوسة، والرشاشات موجهة إلى صدورنا، راودتنا فكرة أن أحدنا سيكون شهيد اليوم التالي. تكرّر هذا المشهد كثيراً، حين أكون وحدي آلاف الأفكار السيئة تخطر ببالي، وحين نكون معاً لا شيء يمكن أن يوقفنا.

كنت أعيش بين مجتمعين: الزبداني ودمشق، وفي كلتا المدينتين استطعت أن أجد ما أصبو إليه، شباب يتوق إلى الحرية وإلى خلق وطن نتمسك به بعد سنوات المنفى الطويلة. فيما بعد اتسعت الحلقة أكثر والشباب يؤسسون حلقات سرية، لم تكن كتلاً سياسية أو تجمعات حزبية كانت خلايا نائمة، نعم خلايا نائمة لكنها لا تؤسس لإرهاب. الكثيرون يقضون الليل في التخطيط والتفكير، في المدينة الجامعية، مخيم اليرموك، ركن الدين، الميدان، كانت لنا مقراتنا السرية وعلاقاتنا السرية، الجوامع كانت بالنسبة لنا نقاط علام أكثر من أي شيء آخر، موعد بدء المظاهرة مع طرقات الأذان كانت خطة ذكية لتلافي الكارثة، وعلى الفيسبوك كانت لنا تجمعاتنا السرية أيضاً، حيث نناقش سير العمل ومهمة كل منا، اللافتات، المناشير، أعلام الثورة، التصوير، المراقبة، قطع الطرقات، وإشعال الدواليب والأكياس؛ التكبير وصيحة البدء، المدة الزمنية، البخ على الجدران، والفركشة وأي الطرق أكثرها أماناً للهرب.

الأمر الممتع والمخذل معاً أننا كنا قلائل، نفس الوجوه التي حفظناها، نفس النظرات، نفس الترقب، الأدرينالين له منسوب واحد عند الجميع، هناك أناس لا أعرفهم حتى اليوم لكنني كنت أراهم دائماً، حتى إذا ما التقينا صدفةً ذات يوم ظن كل منا أنه موعد جديد لمظاهرة جديدة، كنا أقرباء برابطة أخرى، رابطة الغضب من الطاغية وصوره التي تملأ الجدران والمقاهي والمؤسسات والحمامات العامة، رابطة التوق إلى سوريا التي تشبهنا، سوريا التي نريدها.

هكذا غيرتنا سوريا الثورة وغيرت علاقاتنا، أخذنا إجازة من مراهقتنا من الحب والسهر والأغاني ولعب الورق، وصوبنا عيوننا نحو ساحات المدينة، كنا أصدقاء للريح، نحن الذين حفظنا أغاني الثورة أكثر من كتاب مقدس، حفظنا أسماء الجوامع قبل أن نعرف أركان الصلاة، بطبيعة الحال فهمنا فيما بعد مراهقة أحلامنا، وأن القضية أكبر منا بكثير، وأن الثمن الذي سندفعه سيكون أكبر.

كانت الحواجز تنتشر في دمشق، وتكبل الطريق يوماً بعد يوم، وعلينا أن نجوب المدينة مشياً على الأقدام، أن نرسم خارطة الطريق وندرس تحركاتنا جيداً، لتلافي الكابوس المرعب.

كانت الأرياف تزحف إلى المدن، وأبناء الريف الدمشقي يزحفون إلى دمشق ويتكاثرون كسرطان ينخر عظم الحكومات التي جففت أراضيهم وصادرتها، بالمقابل كانت دمشق البرجوازية ودمشق أفرع الأمن تفقد سماتها وتتماهى مع الثورة، مرةً بفضل أبناءها ومرة بفضل الريفيين الذين أيقنوا أن العاصمة هي مفتاح البلاد.

الساعات مضبوطة بدقة تامة، نفس الثواني، دقات القلب أيضاً لها ذات التوقيت، الأدرينالين له ذات المنسوب، الأفعال التي تسبق الصيحات هي دوماً مفتعلة، وهذا أسوأ وقت يمكن أن يمر. ذهنك الغني بكل مهارات التمثيل قد يخونك، نظراتك الهاربة من عيون أصدقاءك قد تخذلك، ضحكة خفيفة تطلقها رغماً عنك، لتعرف بعدها أن كل هذا الخوف سيتبدد بعد وقت زهيد.

أخطر المواقف وأكثرها تحدياً تلك التي كانت على مقربةٍ من فروع الأمن، حيث هتف الجميع “هاها هيه هيه/طز بفرع الجوية”، “يا حمصي تشكل آسي/طز بالأمن السياسي”، كان أحد عناصر الأمن يراقبنا دون أن يتحرك، دون أن يرمش له جفن، مأخوذاً بهول الصدمة، يعرف أن الثورة تعم البلاد لكنه يقول ماذا يفعل هؤلاء المجانين قرب سجوننا!

كل البلاد حضرت في صرخاتنا، هتفنا للمدن الثائرة النازفة المعذبة، كنا جماعة تجعل من ذاتها طبقة بذاتها، ومن أجل ذاتها، وكانت الثورة ضرورة لا محيص عنها، لخلق تلك الذات أو إعادة اكتشافها من جديد، سوريا القديمة كانت تورية، سوريا الثورة كانت التجلي.

كنا ننفخ في أبواق كبيرة وننتظر رجع الصدى، ننتظر لحظة التفجر. اليأس شريكنا دوماً، ونعرف أن دمشق يحكمها الموت السريري. مهمتنا كانت تخريب المنظّم والعبث بكل ما هو رتيب، واستنكاف ذلك الزمن الذي لم نكن نملك فيه أدوات حريتنا، فيما بعد اكتشفنا جميعاً متأخرين أننا نحرك محاطب النار في براكين خامدة راكدة.

هاربين من كتب الاستشراق نركل القوقعة التي عشنا بداخلها سنين طويلة، ونصارع من أجل البلاد، مهووسين بالصراخ، وفي صدر كل واحد منا مقبرة جماعية، والكثير من الجثث المشوهة، والأعضاء المبتورة، ممتلئين بآلاف الصور التي لا تكف عن الخروج من مخيلاتنا لتتكرس مشهداً واضحاً في كل يوم أمام ناظرنا، الكثير من المشاهد المجزأة لأشلاء متناثرة وثياب ممزقة ودم مسفوك يحفر سواقيه بين حجارة الزفت المشقق، ورائحة اللحم المشوي تتعتق في أنوفنا، كل هذا شهدناه في ضواحينا القاصية وجئنا لنتقن الصراخ في الشام.

مريضون بالذاكرة ومهووسون بالمشي، دمشق كانت بيوتاً مجدولة بالمداخن، وحارات موبوءةً بالتماثيل، وكان لا بد من فؤوسٍ تدق رؤوس الأصنام التي تحتل كل ساحة.

اقرأ أيضاً:

في تبديل المنافي والاغترابات / كوابيس لاجئ سوري 1

قصائد جديدة تنال حريتها – أشرف فياض: الشاعر المنسي في أقبية الظلام

اليأس السوري أحاديث الهاربين وأمال العودة

زوّار “البديل لأجل ألمانيا” في سوريا.. فما الذي صمّ آذانهم عن أصوات الطائرات في الغوطة

مهرجان الفيلم العربي في برلين.. البدايات والنجاحات في حوار مع د. عصام حداد رئيس مركز فنون الفيلم والثقافة العربية