in

هذه الحجارة مصنوعة لتتعثر بها

هل سبق أن رأيت أحجارًا ذهبيّة في الشارع؟ هل تعثّرت بأحدها؟ ما هي هذه الأحجار؟ ولماذا هي موجودة؟

إنها ليست مجرّد أحجار ذهبية، فقد نُقِشَ عليها اسم شخص مع مكان وتاريخ ميلاده، إلى جانبه تاريخ الوفاة، التشريد أو الاختفاء. تبدأ تواريخ الولادة في نهايات القرن التاسع عشر. أما تواريخ الموت فتتراوح بين سنوات 1933 إلى 1945. كل واحد منها وضع في ذكرى شخص اضطهد، نفي، نزح، اعتقل أو قتل من قبل النظام النازي تحت قيادة أدولف هتلر.

لا يزال العدد الدقيق لضحايا النازيين غير معروف حتى اليوم. ورغم أن هنالك العديد من الوثائق عن المواطنين الألمان اليهود الذين تم ترحيلهم أو قتلهم في معسكرات الاعتقال، فإن أعداد الذين قتلوا في بلدان أوروبا الوسطى والشرقية التي تم غزوها من قبل ألمانيا خلال فترة الحرب العالمية الثانية غير كاملة.

بالإضافة إلى ذلك، لم يقتصر النازيون على اضطهاد اليهود، بل أيضًا الغجر، والمنشقين السياسيين ومقاتلي المقاومة، والمثليين جنسيًا، وشهود يهوه الذين يطلق عليهم اسم “العناصر المعادية للمجتمع”، الفارين من الجيش، العرب وغير الأوروبيين، فضلاً عن المعوقين ذهنيًا أو جسديًا. ومنذ ذلك الحين تم نسيان الكثير من الناس الذين سقطوا ضحايا للنازيين. في بعض الأحيان تكون قصصهم معروفة، ولكن في كثير من الأحيان من الصعب جدا العثور على أي معلومة دقيقة عن حياتهم ومماتهم.

غونتر ديمنيغ، فنان بصري مولود في برلين في عام 1947، لم يستطع قبول هذا الاختفاء من الذاكرة العامة. في عام 1993، طرح فكرة تصميم اللوحات التذكارية الفردية التي كانت محفورة بأسماء وتفاصيل شخصية للرجال والنساء والأطفال الذين تعرضوا للاضطهاد من قبل النازيين.

سمى ديمنيغ هذه اللوحات “شتولبرشتاين” التي هي اللفظة الألمانية لـ “حجر عثرة”. الفكرة وراء الاسم هي أن المشاة يجب أن “يتعثروا” حرفيًا على هذه الحجارة ليتذكروا تاريخ ألمانيا في القرن العشرين، ويتعرفوا إلى إنسان عاش في هذا المكان نفسه، وتم اضطهاده من قبل النازيين.

وقد تم وضع الأحجار الأولى في كرويتسبيرغ، أحد أحياء برلين، في عام 1997، كمصدر إلهام، يقتبس ديمنيغ من التلمود الذي يقول إن “الإنسان يُنسى بالفعل عندما يُنسى اسمه” وبمشروعه، يريد المحافظة على ذكرى الملايين من الناس على قيد الحياة أولئك الذين قتلوا من قبل الحكومة المجرمة وجماعاتها الإجرامية.

يدير مشروع ديمنيغ الآن مؤسسة “سبورين – غونتر ديمنيغ” التي تنسق تنفيذ الحجارة في جميع أنحاء أوروبا. وبالإضافة إلى ذلك، سوف تجد جمعيات أصغر ومبادرات في العديد من المدن التي تقوم بمراسم وضع “شتولبرشتاين” حجر العثرة على المستوى المحلي.

تشكل اللوحات بحجم حجارة الرصف العادية بمقاس حوالي 10*10 سم، وهي مصنوعة من الكونكريت المغطى بلوح من النحاس الأصفر، وعندما تقرأ النقش على هذه اللوحة، سوف تعرف اسم الشخص وتاريخ الميلاد، بالإضافة إلى المكان الذي ماتوا فيه أو رُحّلوا إليه. وبالتالي ستجد العديد من الحجارة التي تقرأ عليها “قتل في أوشفيتز” أو “مات بالانتحار”، أيضا “هرب إلى فلسطين”. بشكل عام، يتم تجميع الحجارة الفردية لأفراد عائلة واحدة معًا.

وغالبًا لن تجد حجر عثرة “شتولبرشتاين” واحد في الرصيف، إنما ثلاثة أو خمسة بجانب بعضها. وتوضع جميع الحجارة أمام المبنى الذي اختاره الشخص الذي يراد تذكره كآخر بيت. أما إذا أجبر النازيون الشخص على النزوح إلى شقة ما، منزل، أو حي معين، فلا يتم وضع اللوحات في هذا المكان، إنما أمام آخر سكن مسجل من قبل الضحايا أنفسهم.

ومن أجل العثور على المكان المناسب، تنفذ الكثير من البحوث التاريخية وغالبًا ما يتم ذلك من قبل الأفراد أو المتطوعين الذين يريدون أن يكونوا جزءا من المشروع، وكذلك من قبل الطلاب في المدارس الثانوية، وأحيانًا حتى من قبل عائلات الضحايا أنفسهم.

يتواجد في ألمانيا العديد من الأرشيفات المحلية والاتحادية والمؤسسات التذكارية التي يمكن أن توفر وثائق وموادًا أخرى للبحث التاريخي عن الفترة النازية. ودون البحث المسبق، لا يمكن وضع أي حجر، لأن غونتر ديمنيغ أراد أن يكون مشروعه ليس فنيًا فقط، بل دقيق تاريخيًا أيضًا.

بصفة عامة، يمكن لأي شخص أن يتطوع لدفع ثمن حجر ووضعه في مكانه الصحيح. ولا يقتصر هذا الفعل على أفراد الأسرة أو أصدقاء الضحايا. و مع ذلك فإن مؤسسات “شتولبرشتاين” المحلية توصي بشدة أن يتم الاتصال بأسرة الضحية قبل المراسم، ودعوتهم إليها، قبل بدء العملية بأكملها. كما يحتاج لموافقة البلدية المحلية على وضع اللوحات التذكارية في شوارعها. وفي العموم يتم وضع أحجار العثرة “شتولبرشتاين” على الأراضي العامة، كالشوارع أو الأرصفة، التي تعود ملكيتها للدولة وليس للمواطنين الأفراد. وحالما يجهز الحجر، يتم وضعه في مكانه الصحيح بحضور كل شخص شارك في إنتاجه، وأحيانًا حتى الفنان نفسه. وخلال المراسم يتم تكريم ذكرى الضحايا ورواية قصة حياتهم.

سعر الحجر الواحد والذي يشار إليه عموما باسم “الكفيل”، يصل إلى 120 يورو. لغاية نيسان / أبريل 2017، تم زرع ما يقرب من 61،000 ألف حجر عثرة في أكثر من 1100 مدينة وبلدية ليس فقط في ألمانيا، بل أيضًا في بلجيكا، كرواتيا، المجر، بولندا، ليتوانيا، وغيرها. ومن المقرر في هذه السنة أن تقام المراسم لأول مرة في بيلاروسيا ومقدونيا.

كما هو الحال مع كل مشروع فني أو تاريخي كبير، فإن أحجار العثرة “شتولبرشتاين” ليست معفاة من النقد. فقد أعلن العديد من ممثلي ضحايا النازية علنًا، مثل شارلوت نوبلوش، رئيسة الجماعة اليهودية في ميونيخ، ​​عدم تأييدهم للمشروع. وفقًا لما ذكرته نوبلوش فإن هذه اللوحات تدعو المشاة إلى “الدوس على المصير الشخصي” للأشخاص الذين يعتزمون تذكرهم، كما أن هذه الحجارة يتم تدنيسها بسهولة من قبل المتطرفين اليمينيين والنازيين الجدد. هذا هو السبب في رفض بعض المنظمات اليهودية وغيرها، وكذلك بعض السلطات المحلية، لوضع أي حجارة في بلدياتها.

ومع ذلك، هناك الكثير من المنظمات الأخرى التي تدعم المشروع وليس لديها مشكلة مع حقيقة أن الحجارة وضعت في الأرض، وبالتالي يمكن أن يُداس عليها.

حين تمشي في الشوارع الألمانية، سوف تجد العديد من اللوحات والملصقات الأخرى التي تم تركيبها لإحياء ذكرى ضحايا النظام النازي. قد لا تكون أحجار العثرة “شتولبرشتاين” شيئًا غير عادي أو فريدًا تمامًا. لكنها واحدة من المشاريع الأكثر شهرة، وانتشرت بالتأكيد أكثر من أي جهد تذكاري آخر. ففي كل يوم وكل مكان تقريبا في ألمانيا، تذكرنا هذه الأحجار الذهبية الصغيرة بأن المصير الشخصي لكل ضحية من قضايا القسوة الإنسانية مهمّ، حتى لو حدث كل ذلك في الماضي.

ليليان بيتان | محررة القسم الألماني في صحيفة أبواب
ترجمة ريم رشدان

ما حدث معنا قبل أن نركب الـ “بلم”

قبل أن أصير جُندبًا.. الضّباب من بدأ الحِكاية