in

فضاء مفتوح لجريمة بلا عقاب

إباء منذر

جريمة مُكتملة الأركان باستثناء العقاب، لعلّهُ أبسط توصيف لجرائم “التشهير الإلكتروني” باعتبارها شكلاً من أشكال العنف غير المُلاحق قانونيًا، وغالبًا ما تكون المرأة أكثر ضحايا هذا النوع من الجرائم، وكلّما اقتربت من دائرة الضوء أكثر كلّما كانت عرضةً لحملات التشهير القائمة على أساس تمييّزي.

 

عورة المرأة سلاح..

الانتهاكات المرتكبة بحق المرأة عبر شبكة الإنترنت أو الإعلام الإلكتروني باتت فاقعة وسافرة خلال سنوات الثورة السورية بعد 2011، حيث استخدمت المرأة كواحدة من أدوات الصراع للطعن في أخلاقيات كلا الطرفين، فلم يتوان النظام السوري عن تصدير ما أطلق عليه اسم “اعترافات لنساءٍ من أوساط المعارضة” عبر شاشاته مُلفقًا روايات تتعلق بممارسات لا تتوافق والمنظومة الأخلاقية للمجتمع السوري (جهاد النكاح)، وكذلك تناولت بعض وسائل الإعلام المحسوبة على الثورة أخلاقيات التشكيلات النسائية العاملة مع النظام وروّجت لبعض الروايات المتعلقة بالدعارة.

التشهير بالمرأة أحد المواد الدسمة التي تتعامل معها وسائل التواصل الاجتماعي بفوقية وباستخدام ألفاظ ذكورية قائمة على التمييّز والتحقير الذي من شأنه استلاب قدرات المرأة، مثل هذه المواد تنتشر سريعًا حيث لا حدود ولا جغرافيا تحدها، كذلك لا رقيب يضبطها أو عقاب يردعها.

لم تسلم العاملات في الشأن العام من حملات التشهير الإلكتروني والطعن وتناول الحياة الشخصية، كأن تصبح صورة عضو الائتلاف سهير الأتاسي بملابس السباحة الشغل الشاغل لوسائل التواصل الاجتماعي بدلاً من النقد المُنتِج والموضوعي لوظيفتها. أو أن تصبح تسمية المجلس الاستشاري النسائي الذي شكله مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا ستيفان ديمستورا بـ (نساء ديمستورا)! مع كل ما تحمله هذه التسمية من إشارات وإيحاءاتٍ تمييّزية، في حين لم يكن صعبًا انتقاد شخصيات المجلس بشكلٍ موضوعي وقائم على المهمة الموكلة لهن.

 

حصانة ذكورية

في المقابل يبقى الرجال العاملون في الشأن العام بعيدين إلى حدٍ كبير عن التعرّض لحملاتٍ مشابهة في تناول حياتهم الشخصية، بينما تشهد الأوساط السياسية العالمية فضائح للرجال والنساء على حدٍ سواء تكاد تودي بمستقبلهم السياسي والمهني.

لعلّ خلف مثل هذه الحملات التي تستهدف المرأة أكثر من الرجل في مجتمعاتنا عقلية ذكورية راسخة لا تزال تعتقد أنّ المرأة عورة، و”ضلع قاصر” في المجتمع مهما ارتفع شأنها، وهذا ما يؤدي بالنتيجة إلى شكل جديد من أشكال العنف الموجّه ضدّ المرأة وهو العنف الإلكتروني.

وإذا اتفقنا مع علماء النفس باعتقادهم أنّ ضعف التواصل العقلي والموضوعي هو أحد الأسباب الكامنة وراء ظاهرة العنف أيّاً كان شكلها، فذلك سيقودنا إلى معاينة حجم الهوة بين تطوّر أدوار المرأة واتساعها وثبات النظرة الدونيّة التي يحاول المجتمع ترسيخها.

 

غرس ثقافي

شكل آخر من أشكال العنف الإلكتروني يتمثّل في رسائل التهديد والابتزاز التي غالبًا ما يتعرض لها معظم العاملين في الشأن العام، إلاّ أنّ تهديد المرأة بهذه القضايا أكثر خطورة لحساسية وضعها ضمن مجتمعاتنا، لكونها الحامل لقيمة “الشرف” وفق المنظومة الأخلاقيّة السائدة، المُستندة على عورة جسد المرأة ووجوب صيانته.

الأصعب في قضايا العنف الإلكتروني هو عدم القدرة على الوصول للجناة، إلى جانب عجز شبه مطلق للمرأة في الدفاع عن نفسها هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى تعمّد حملات التشهير إلى غرس صورة معينة في ذهن المتلقي يصبح من الصعب تغييّرها، وللإنصاف لا يمكن تبرئة المرأة من جريمة التشهير التي تتعرّض لها بنات جنسها، كأن تكون مشاركة في مثل هذه الحملات.

 

قوانين عرجاء

العنف الافتراضي واقع على المرأة شأنه شأن العنف التقليدي، وإذا أردنا البحث في الحلول فعلينا أولاً معالجة قضية العنف الواقعي الذي تعجز القوانين في منطقتنا العربية عن الانتصار للمرأة من خلاله وتحقيق العدالة المطلوبة على سبيل المثال التحرش والتشهير.

بالتوازي لا يمكن وضع حد للعنف الإلكتروني دون وجود منظومة دوليّة تقوم على مبدأ المراقبة وتفعيل آليات المحاسبة، فحتى الآن تقف المنظمات والهيئات المعنية بحقوق الإنسان عاجزة حيال مثل هذه الجرائم، وفي أفضل الأحوال تحاول رصد هذه الانتهاكات دون إيجاد صيغ عملية فاعلة لمواجهة هذه الجرائم ومحاسبة مرتكبيها.

بعض وسائل التواصل الاجتماعي من جانبها وضعت قانونها الخاص لمحاسبة المسيئين عبر إغلاق الحساب الذي يتعرّض لتبليغات بسبب نشره لما هو مسيء، إلاّ أنّ في ذلك محاكمة غير عادلة؛ فالعديد من الحسابات تتعرض للتبليغات دون وجود محتويات مسيئة إنّما لأغراضٍ شخصية، وبالتالي من الصعب إيجاد صيغ مانعة قاطعة لدابر الجريمة الإلكترونية دون تعاون كل الفاعلين في الفضاء الإلكتروني بمعنى وجود هيئات أممية، تسن قوانين متفق عليها.

وربما يعتقد البعض أنّ الحيّز الإلكتروني هو المجال الشخصي الحر، وأيّ مراقبة أو متابعة من شأنها الحد من هذه الحريّة الشخصيّة، لكن القاعدة الذهبية للحريّة الشخصيّة تكمن بانتهائها عندما تبدأ حريّة الآخرين، وفي هذا حصانة لحريّاتنا جميعاً في هذا الواقع الافتراضي.

 

نقلاً عن مجلة طلعنا عالحرية.

سلسة ألمانيا تتلون بالأخضر: في البدء كانت الغابة

“ميثولوسيريا” من لاجئ سوري إلى صديقة ألمانية