in

“سنعلّم الزمن كيف يمشي”

اللوحة للفنانة ريم يسوف

جولان حاجي *

شاعران ألمانيان كلاهما ليسا ألمانيين، تبادلا عبر الرسائل الكثير من القلق والجمال والحزن والحب. عابراً بوخارست وبودابست، وصل “بول تسيلان” إلى فيينا أواخر سنة 1947، قادماً من تشيرنوفتسي، الرومانية سابقاً والأوكرانية حالياً، البلدة التي كانت معبراً حدودياً على تخوم الإمبراطورية النمساوية المجرية، وجزء من الإقليم الناطق بالألمانية هناك.

في تلك الفترة نفسها، كانت”إنغبورغ باخمان” تدرس الفلسفة، وما كان قد انقضى على وجودها في فيينا أكثر من سنة واحدة، وكانت بدورها آتيةً من بلدة كلاجنفورت النائية المتاخمة للحدود مع سلوفينيا. كانت تصغر “بول تسيلان” بستّ سنين، التقته للمرة الأولى في أيار/مايو 1948، ودام التواصل الحميم بينهما حتى بداية الستينيات، عندما رفعت “كلير غول” ضد “بول تسيلان” دعوى باطلة بالانتحال الأدبي وسرقته الشعرية لقصائد زوجها “إيفان غول”.

زعزعزته تلك الاتهامات وأتت بمثابة ضربة قاضية أنهت الكثير من صداقاته لأن ردود أفعال أصدقائه قد خيّبت ظنه، فلم يولوا الدفاع عنه الاهتمام الذي ارتجاه ولم يأبهوا كثيراً بتلك الضجة التي كان وقعها عليه شديداً، حتى لو كانت تلفيقات لا أساس لها من الصحة. يشكر “تسيلان””باخمان”، في رسالة أخيرة إليها سنة 1967، لأنها رشحته كمترجم محتمل لآنا أخماتوفا، وهو الذي اعتمد غالباً على الترجمة الأدبية في تأمين عيشه؛ وفي وقت لاحق كفّت “باخمان”عن التعامل مع ناشريها، بعد اعتمادهم ترجمة أخرى أنجزها شخص آخر كان قد ألف أغنية نازية.

“الشاعر السريالي الذي التقيته مساء البارحة، بصحبة فايغل في بيت الفنان ينيه، ويا له من شخص فاتن حقاً، قد وقع في غرامي وقوعاً مدوّياً”، هكذا أشهرت “باخمان” بداية علاقتهما في رسالة إلى والديها.

“لسوء الطالع، سيغادر إلى باريس خلال شهر. غرفتي في هذه اللحظة كحقل من شقائق النعمان، تلك الزهور التي يحبّ أن يمطرني بها”. لكن ثمة العديد من المفارقات التي لفت علاقتهما بالتوتر منذ بدايتها، وإحداها هو أن والدَي تسيلان قد قضيا في معسكر من معسكرات الموت، في حين كان والد “باخمان” عضواً في الحزب النازي (حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني).

كان “تسيلان” قد سافر إلى باريس لدراسة الطب قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، ونجا من المحرقة. زارته “باخمان” بضع مرات في باريس، والتقيا مرة واحدة في ألمانيا في اجتماع لجماعة الـ47 الأدبية، وتوقفت لقاءاتهما بزواج تسيلان سنة 1952.

ثم في سنة 1957 بدأ كل شيء من جديد في مناسبة أدبية أخرى، فراح تسيلان يبعث إليها بالقصائد والرسائل، بالبرقيات والبطاقات البريدية، وقام برحلات عديدة ليراها في ميونيخ، وكتب لها: “كنتِ، عندما التقيتك، الشيئين كليهما بالنسبة إلي: الحسّي والروحاني. وكلاهما لا ينفصلان أبداً، انغبورغ”. وسواء انفصل هذان الجانبان أو لا، فإن هذه المرحلة من علاقتهما قد انتهت في السنة التالية، وإن بدت الرسائل التي أعقبتها متذبذبة طافحة بالحسرات. كانت لقاءاتهما قليلة بعد ذلك، ومتصلة عادة بأمور أدبية.

ومن ثم، قبل نهاية علاقتهما، اكتسحت “قضية غول” مراسلاتهما التي تخللتها الكثير من الإشارات إلى مكالمات هاتفية يبدو أنها لعبت دوراً أكبر من دور الرسائل في استمرار علاقتهما عن بُعد. في رسالة طويلة (27 أيلول 1961) لم ترسلها أبداً، على غرار رسائل كثيرة، تصف “باخمان” حالة “تسيلان” وصفاً مدهشاً في وضوحه، وتشرح له الأسباب الكامنة وراء استعداده “ليترك نفسه يدفن” تحت ركام النقد الزائف الموجَّه ضده.

وتقول أيضاً: “ما ارتكبْتَهُ في حقي هو الأسوأ، أفدح من كل ظلم وأذى لحق بي حتى الآن. مَن أنا بالنسبة إليك، بعد كل هذه السنين؟ خيالٌ أم واقع لا يمت بأية صلة إلى هذا الخيال؟ لقد تعرضتُ لأشياء كثيرة، ورغبتي هي أن أكون ما أنا عليه، اليوم. هل تفهمني الآن؟ ذلك ما لا أعرفه، وذلك ما يجعلني يائسة”.

بعد انتحار”تسيلان” سنة 1970، غرقاً في نهر السين، كتبت”باخمان” في روايتها مالينا عن شخصية تسمع بموت “حبيبها” فتقول: “كان حياتي. أحببتُهُ أكثر من حياتي”. نقرأ في تلك الرواية إياها: “ولكن عليّ التفكير بالزمن مليّاً وطويلاً، ما دام “اليوم” كلمة مستحيلة بالنسبة إلي، حتى لو كنتُ أسمعها يومياً؛ لا مفرّ لك منها. أضطرب عندما يبدأ الناس بالتحدث إليّ عما خطّطوا له من أجل اليوم-دع عنك الغد. علاقتي مع “اليوم” سيئة جداً، حتى أن كثيرين يخطئون غالباً في تفسير انتباهي المفرط فيحسبونه شروداً في النظرة.

هذا “اليوم” يتمكّن مني، على عجلٍ وفي قلق، فلا أستطيع تفادي الكتابة عنه، أو في أحسن الأحوال أعدّ تقريراً عن أي شيء يدور فيه. في الواقع، يجب التخلص من أي شيء يُكتب عن “اليوم” وإتلافه فوراً، كما تمزَّق كلُّ الرسائل الحقيقية أو تُرمى في القمامة، من دون إنهائها وإرسالها بالبريد، لا لشيء سوى أنها قد كُتبت من دون أن تستطيع الوصول “اليوم”.

كلُّ مَن كتب رسالة محمومة مكثَّفة، فقط لكي يمزّقها ويرميها، يعرف بالضبط ما هو المقصود بـ “اليوم”. ومَن ذا الذي لم تصادفه عبارات مكتوبة من قبيل: “أرجوك تعالَ إذا استطعت، إذا أردت، إذا وددتَ أن تراني! الساعة 5 مساء- مقهى لاندتمان!” أو برقيات مثل “أرجوك اتّصلْ فوراً، مُرَّ اليوم” أو “مستحيل اليوم”.

* جولان حاجي . شاعر ومترجم سوري

اقرأ أيضاً:

معرض لمرفقات رسائل معجبي “غوته”

رماد غارسيا ماركيز ينقل إلى مدينة “الحب في زمن الكوليرا”

الرسول الرماديّ، أوديسا الشعراء السوريّين.

في “طعم الإسمنت”: بيروت.. بحرٌ إسمنتي، واستراحةٌ بين حربين، وحظر تجول دائم

?”Was bedeutet “Nationale Identität