in

أنوثة الشعر ج1- العصيان

اللوحة للفنانة نسرين أبو بكر
اللوحة للفنانة نسرين أبو بكر

بقلم: خضر الآغـا*

عندما قرر الفرزدق أن المرأة إذا قالت شعراً يجب أن تُذبح، فإنه كان أحد الخاضعين والمؤسسين لنسق شعري عربي صارم يعتبر الشعر من نصيب الذكور فقط، ولا مكان للمرأة فيه. وعندما قال جملته الشهيرة في امرأة قالت شعراً: “إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها”، فإن النقاد العرب آنذاك، وحتى العصر الحديث، لم ينظروا إلى تلك المقولة/ النسق نظرة نقدية، بل تم تداولوها بشيء من الانتشاء.

طبقة الشعراء الفحول:

قسّم النقاد العرب الشعراء إلى طبقات، أعلاها وأكثرها حماية هي طبقة الفحول، مع ما تحيل إليه مفردة الفحل من ذكورية قصوى وسلطة متفجّرة. في العربية يوصف الرجل شديد البأس بالفحل، وكذلك “زير النساء”! وقد ارتاح تاريخ الشعر العربي لهذه التقسيمات، واعتنى بها وطورها، فأضاف إليها ووضع حراساً على بوابتها لا يدخلها إلا من حقق شروط النسق الذكوري/ شروط الفحولة.

من هذه الشروط ليس الصياغة أو الصناعة الشعرية والمهارة في الأداء فقط، بل ظهور التسلّط في القول، فلم يدخل “ذو الرمة”، كمثال، مملكة الفحولة لأنه لم يمدح ولم يهجُ كما ينبغي للفحول، كذلك تم استبعاد “عمر بن أبي ربيعة” لتغزله بالنساء، وهذا يعتبر نوعاً من الضعف الإنساني لا تدرجه الغطرسة الذكورية الشعرية في أبوابها!

وقد أُعجب شعراء العصر الحديث ونقاده بهذه الفكرة وراقت لهم، لأنها تدعّم ذكوريتهم وتعاليهم على الناس وحركتهم في اتجاه الحياة، فأعادوا صياغتها مرة تلو الأخرى، وحدّثوها بحيث تفتح أبوابها لبعض شعراء الحداثة، وتغلقه في وجه آخرين! كأن الزمن البطريركي للشعر لم يتغير، بل على العكس تم تعميقه وتعميق البنية التي تنتجه وتعيد إنتاجه بلا نهاية.

إقصاء الشاعرات:

بما أن الفحولة تنطبق على الذكر دون الأنثى، وبما أن الشعر من عمل الذكور، جرياً على مقولة الفرزدق وطبقات الشعراء، فإننا نتذكر الإقصاء غير المسبوق الذي قام به شعراء الحداثة بحق الشاعرة السورية “سنية صالح”، إذ كيف لأنثى أن تدخل مملكة الذكور المسوّرة بالأسلاك الشائكة والكهرباء؟ كيف للدجاجة أن تصيح صياح الديك إذاً؟! فلو أحصينا عدد الشاعرات اللواتي ظهرن خلال رحلة الشعر العربي الحديث مقارنة بعدد الشعراء الذكور، فإن النتيجة ستكون شبه انعدام لهن.

لكن الأمر يخرج أحياناً عن السيطرة. ففي العام 1946 قامت الشاعرة العراقية “نازك الملائكة” بنشر قصيدة ليست على مقاس عمود الذكر المنتصب، بل على تفعيلات جديدة من شأنها أن تدمّر الأعمدة الرخامية أو البازلتية للقصيدة العربية منذ نشوئها. تلك القصيدة هي “الكوليرا”، وقد كانت، حقاً، كوليرا أصابت الشعر العربي في مقتل. فقام حراس الهيكل بشنّ حملة كادت تكون دموية على “المؤامرة” التي تحاك ضد الموروث!

لم تكن “الكوليرا” مجرد قصيدة تجرأت على تاريخ الشعرية العربية فكسرّت أعمدته فقط، بل كانت قصيدة من امرأة! وهنا يتضاعف حجم الكارثة. لكن باعتبار أن الكوليرا معدية، سرعان ما انتشر (المرض) الجديد في جسد الشعر العربي وصار هو الأصل، معلناً نشوء الشعر العربي الحديث. وذلك بصرف النظر عن المآل الذي وصل إليه الشعر الحديث وأثره التخريبي على الشعر العربي برمته.. العرض هنا تاريخي وحسب.

ولا أجد حاجة لعرض المعارك التي نشبت جراء ذلك، فتاريخ الشعر يذكرها جيداً. لكن المهم في الأمر أنها لم تكن مجرد حركة تجديدية فحسب، بل أراها تنطوي على فكرة تأنيث الشعر، إذ في تحطيم عمود الفحولة الشعرية العربية تحطيم لمقولاته الذكورية أيضاً.

ثمن العصيان:

لكن لن يمر الأمر دون عقاب، فأن تتجرأ أنثى على نسق موغل في القدم والرسوخ، ومحمي بتاريخ كامل من التسلط والطغيان، فذلك أمر خطير، ويجب إعادة الأمور إلى نصابها. لذلك فقد انبرى المنخرطون في حركة الشعر الحديث، ممثلة هذه المرة بشعراء حركة الحداثة التي انبثقت في خمسينيات القرن العشرين، ووضعوا قوانين للشعر ذكورية بحتة، وأرغموا “نازك الملائكة” على التراجع عن الكثير من مقولاتها، وعاد الشعر إلى عمودية من نوع آخر، وإلى فحولية بشكل آخر.

وكان على الشعر العربي أن ينتظر عقوداً طويلة ليبدأ بمحاولات تأنيثه من جديد.

يتبع…

*شاعر وناقد سوري مقيم في ألمانيا

اقرأ/ي أيضاً:

بدون لغتي، أنا كائن ميت!

شعرية اللا شعر في ديوان “أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم” لعصام أبو زيد

الكتابة بمخيلة الرسام: حوار مع الشاعر السوري محمد سليمان زادة

أمام ريال بيتيس … ميسي الباحث عن التحدّيات

في سوء الفهم الناجم عن الفروق الثقافية