in

شعرية اللا شعر في ديوان “أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم” لعصام أبو زيد

عمران عز الدين*

يُفترض بمرتكب الشعر، المنثور منه خاصة، أن يكون معجمه الشعري زاخراً بالمفردات والصور والرؤى والتشابيه والاستعارات والكنايات، أن يكون عميقاً ومكثفاً وبليغاً في إيجازه، فهو ليس قاصاً أو روائياً لتكونَ لغته سردية بحتة.

الشاعر الحقيقي أكثر قدرة على الحذف والإضافة والاصطفاء والتحليق والتجويد. لكن ومع إقرارانا التام بالريادة والفرادة لهذا النوع من الشعراء إلا أن الأمرَ يبدو غير مستساغٍ على المدى البعيد، فالقراءة الموغلة في الترف والتقشيب تكون أحياناً مدعاة للملل والنمطية، فقط لأنه شعرٌ مترفٌ، فقط لأنه شعرٌ قشيبٌ، ولأننا قد نصرخ ذات قراءة: هاقد اكتفينا، فماذا بعد!؟ نحن إذن إزاء تحدٍ خطير، ملغوم وبالغ الحساسية، يكمن في البحث عن الجدّة والتفرد، المجدول بشيءٍ من التمرد الجريء المدهش، والمصحوب بالمغامرة بالانقلاب على الرتابة والكليشيهات.

عليه فمن النادر جداً أن نتعثر وسط هذا الكم الكبير من الشعراء بشاعر ديدنه المغامرة، أنا مثلاً تروق لي قراءة الشاعر المغامر، المتمرد على القوالب، وغير المُرضي لنفرٍ من النقاد ممن لا يتوانون عن نعتِ شعرِ كل من انقلب على الخليل بن أحمد الفراهيدي وأوزانه بالزندقة والهرطقة! الشاعر الذي يروق لي يكتب ويمضي، لأنه بحاجة لتدوين حالة يعيشها ولا يكترث لما سيخلص له القارئ من انطباع أو حكم، المصري “عصام أبو زيد” من هؤلاء الشعراء المغامرين، تلمستُ ذلك في عمله الشعري السابق الذي وسمه بعنوان غريب: “كيف تصنع كتاباً يحقق أعلى مبيعات؟”، وتبدى لي ذلك جلياً في عمله الجديد:” أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم”2013، وفيه يحلّق أبو زيد في فيافي الشعر وأمدائه بكلمات عادية، ومغرقة في المباشرة أحياناً، لا يتكبد عناء الحرص على الشعرية في تدبيج صورة، ولا يلهث كذلك وراء مفردة مشذبة كما كان عليه الحال في ديوانه السابق، الشعرية في ديوانه الجديد تكمن في القطعة ككل، في فكرتها أيضاً، وفي حكايتها كذلك، اقرأ معي ما كتبه هنا:

قبعة العامل الصفراء

فوق رأسي

وأنا أتقدم نحو طاولتي لأشرب شاياً

أقص آظافري وأسمع موسيقى

القطارات هنا تتأخر

والطبيب يتكلم كثيراً

قدمي تؤلمني

وأرغب في الصعود

أعطني يدكِ لأنفخ فيها:

Love will keep us alive “

إنه شاعر يعي تماماً ما تنطوي عليه الكلمة من شحنات ووظائف، فلا تخونه إذ يغامر بزجّها في متنه نشداناً لاكتشاف ما، يعي أيضاً كيف تُستعمل تلك الكلمة في موضعها المناسب، وهو الأمر الذي تلمسناه بعد قيامنا بحذف كلمة أو استبدالها بأخرى على أكثر من مقطع وفي أكثر من قصيدة. إنه باختصار يعوّل على الروح فيها، والمُضمَر، فالشعرية في مختبره الشعري لا تكون في الكلمات المشذبة أو الرهيفة ذات الجرس الموسيقي، بل بما تنطوي عليه تلك الكلمات من حالات واستيهامات وتثوير وحمولة شعرية وشعورية. وهو يعول على الحكاية كعمود فقري لمقطوعته الشعرية، كما عوّل عليها بامتياز في ديوانه السابق. ويعوّل بالمقدار ذاته في قفلاته على الدهشة أو الصدمة:

“لا تحبها كثيراً. لا تحبها

خذ من يديها عطر أيام السعادة واهجرها سريعاً

لا وقت في الدنيا لانتظار سفينة نصف سكانها غرقى”.

يثير أبو زيد في “أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم” بعض الحالات والقضايا الفلسفية، فلا يقف أمامها موقف المتفرج بل يشرحها ويدينها إذا استدعى الأمر. فهو أحب فتاة من غير دينه، عبر معها الصحراء، وطلب من الرب أن يباركه. كما أنه الشخص السابع في العائلة الذي مات ولا يزال على قيد الحياة. واختفى فجأة من المرايا ولم تعد الحيطان تمنعنه من المرور عِبرها. وهرباً من شيء عظيم يلوذ بالعاهرة، يضع وردة حمراء في صحن أبيض ويقدمها لها، ويبكي على صدرها إذ تضمه.

عنوان الديوان من أهم نقاط قوته وتماسكه، عنوان شعري بامتياز، وقد استلّه الشاعر من مقطع قصيدة من أطول قصائده وحملت عنوان “أشياء صغيرة لأجلها أحبك”. ومما جاء فيها:

“أحبكِ وأنا أحمل جيتاري المكسور

أحبك لأنني لا أجيد البرتغالية مثلاً

أحبك لأن يدي تؤلمني وأنا أتكلم

ورقبتي تميل ناحية اليمين قليلاً

كلميني وأنت في البلكونة

أرسلي لي بعض الهوا

أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم

أحبك لأن اللغة العربية تقول إنني أحبك”.

تلكم هي المداميك التي تجعل مما يكتبه أبو زيد كتابة متميزة، شاعر مغرم بالجدة والخلق والابتكار والنحت والرسم والتمثيل والموسيقى، ومسكون برفض المسلمات واليقينيات، مهووس بالحب والورد والرقص والجمال والدفقة الشعرية المركزة، لا يكتب شعرا فائضاً، عبثياً، بل يسرد حكاية تنطوي على شحنة شعرية كبيرة كما في قطعته الشعرية الباذخة “أوصاني أبوك يا زبيدة”، والتي يقول فيها:

“أوصاني أبوك يا زبيدة أن أشتري لك البحر مع البيوت القريبة الملونة/ وقال لي لا تعد إلى البيت قبل أن تودع الصخرة والشجرة والكلب الناعس العجوز/ وكن لطيفاً مع الحصان لأن ساقه تحطمت تحت عجلات عربة غادرة / واسأل صانع الصحون الخوص هل عادت زوجته إلى كتابة الشعر ثانية/ هذه المرأة ليست من بلادنا لكنها تكتب الكلام في هيئة غريبة…”.

إذا كان الشعر هو معنى المعنى وفق ما ذهب إليه “بلاكمور” فالقطعة الشعرية عند “عصام أبو زيد” هي شعر الشعر، الشعر القائم على الفكرة الشعرية والحكاية الشعرية، بمفردات أو كلمات لا شعرية غالباً.

*كاتب سوري

 

 

خاص أبواب

 

اقرأ/ي أيضاً:

مانسيل في متاهة المشرقة: قراءة في كتاب “ثلاث مدن مشرقية”

مبادرة “شارك كتابك” للتشجيع على القراءة باللغة العربية

مكالمة فائتة… قراءة في رواية لناهد العيسى

الملفات السريَّة في رواية “حضرة الجنرال” للروائي الجزائري كمال قرور

صدر حديثاً.. رواية «سيناريو» للفلسطيني سليم البيك

شبكة التواصل المهني الأولى في ألمانيا “XING”: بوابتك إلى سوق العمل، فسارع إلى إنشاء حسابك

غوارديولا أمام أرسنال.. فيلسوف الكرة يضرب من جديد