in ,

الكتابة بمخيلة الرسام: حوار مع الشاعر السوري محمد سليمان زادة

حاوره ابراهيم حسو

أتمّ الشاعر “محمد زادة” 1970 في مجموعته الأخيرة (تفاصيل الملل) عصارة ألمه وغربته وحنينه، محاولاً لملمة ما تبقى من أنقاض الروح عبر مجموعاته الثلاث (أمراء الوهلة الاولى)، (تماثيل الظل) و(التدوين الخامس للعمر)، وبهذا أنهى محاولاته الأخيرة في اختراق قصيدة النثر من بوابتها الأمامية، مستخرجاً قصيدة قائمة على اللون والتشكيل البصريين.

هذه الكتابة العميقة والسهلة معاً تعتمد على الصورة كمانح لمصداقية هذا الشكل التعبيري من الكتابة الحديثة، أو ما يمكن تسميته: “قصيدة البهرجة الشفوية” التي تقود التفاصيل الصغيرة وتتحكم في مساراتها ومبتغاها، ضارباً البلاغة في عرض حالها، تاركاً الشعر يسيل في كل هذا البياض المتاح، غير آبهٍ بما تفضي به القصيدة حينما يتأرجح النص بين الغرابة والبساطة وبين الحياة ونقيضها.  

عالم “محمد زادة” بسيط وهادئ وشاسع، يقاتل كي يمثّل نصه، ونصه يمثله، لا يهتم بسطوة الانتماء للأسماء الشعرية الكبيرة، ولا يعير أهمية لتجربة شعرية فريدة ومميزة بعينها، فالذي يكتب من تجربته لا تعنيه تجارب الآخرين، حتى إن بدا صوته كأصوات الكثيرين ممن يحاولون التنقيب في تلة لغوية واحدة.

قصائد “محمد زادة” خزان الصور ومنبع للتشكيل، كل قصيدة لديها صورة أو سلسلة بصرية مشهدية تعيد للأشياء وحشيتها وبلاغتها الأولى وصفاءها الأخير. ما يهم من قراءة زادة هو الاشتغال على الفكرة والحدث الشعريين، الفكرة التي تنقلب إلى قصة والحدث الذي يحمل مساحة تخييلية تشوّش علينا ذكرياتنا، وتعزز قدرتنا على فهم أنفسنا بكل قبحنا وانفلاتنا. في هذا الحوار نقترب من حيوية وحياة محمد زادة ونقرأ العتمة والوضوح والتقاسيم الانسانية (الوطن والحبيبة والثورة) وان كانت هذه المتلازمات الثلاث تلازم مخيلة أغلب التجارب الشعرية المغتربة منذ الحرب السورية السورية:

تحاول في كل ما تكتبه أن تقبض على الحياة من حنجرتها، تفتش عن النبض الحي الباقي فيها، تعثر بحنكتك على ذلك الدم الذي لا يتوقف في الكلمات إلا بزوال اللغة واختفائها، تكتب كمن يرثي نفسه بالعالم، أو يرثي العالم به، إلى أي حدٍ يمكن أن تتحملك الحياة وتحملك القصيدة؟

إن لم ننجح فلنحتفل بالفشل، بهذه الحكمة أتعامل مع الحياة، فهي مجبرة أن تتحملني لأنها ببساطة لا تريد لنا ما نريد، فهي حياتنا نحن ولكن بطريقتها هي في إدارة هزائمنا. فتأتي القصيدة لتحملني للجهة الأخرى لأعيش لبرهة في شرفات النوافذ العالية. أعيش المعنى الحقيقي للتحدي والتمرد والاحتفال بالفشل، الاعتراف به والاعتزاز. القصيدة تحملني إلى كل ما أريد وتعطيني السكاكين والعناوين وشجاعة الانتقام.

أنتَ دائم الحضور في قصائدك، وجودك في كل مقطع، أنفاسك موزعة على البياض الذي تتركه بين كل قصيدة وأختها، هل يوجد شاعر غير محمد زادة يتولى قيادة القصيدة، امرأة ما تتولى عنك الكتابة لتبقى متفرجاً لا حول لك ولا قوة؟

هناك امراة بحثت عنها أربعين عاماً أي عندما كنت في الخامسة من عمري، وكانت مشقة البحث عنها تدفعني للكتابة، وكلما كنت أعثر على امرأة كانت تساعدني في البحث عن التي أريد، وحين عثرت عليها في بلاد بعيدة شعرت أنني وصلت فأعطيتها القلم واسترحت في حلمي. تلك المراة (داليا) هي التي صارت تكتبني وتكتب عني وعن طفولتي وعن رحلة البحث عنها وعن مشقة المثول أمامها وعن الموت الذي سيخلفه غيابها.

في كل مقطع من نصوصك الطويلة هناك تمجيد للّحظة، ترميم الآني وإشباعه، تأسيس حالة شعورية متحوّلة ومتنقلة، مبنية على مخيلة هادئة وراسخة. ثمة انسيابية مريحة تبعث على طمأنينة دفينة تظهر وتختفي، دون الحاجة إلى آليات لغوية ثقيلة لحمل المعنى معانٍ اخرى، ما رأيك بهذا القول؟

– الزمن تبدل وهو في حالة تبدل يومي. كل شيء صار يمضي بسرعة أكبر. لم يعد بمقدور الناس الجلوس لخمس ساعات في مسرح والاستماع لأغنية ما لكوكب الشرق أو العندليب. نحن في زمن الأغاني القصيرة وأفلام الخيال وقراءة الروايات العالمية في القطارات. هي حالة اكتشاف اللحظات القصيرة فلم يعد هناك متسع من الوقت، وتلك اللحظات رغم قصرها تترك فينا أثر السنين. هكذا ببساطة تمضي السنين، ببساطة نخسر الحياة ونخسر الأحبة، ببساطة نتحول إلى آلة! فلماذا لا أكتب عنها بتلك البساطة؟ لا أريد إبهار القارىء بمهارة اللغويين، أريد أن أفتح له بعض النوافذ الصغيرة بكل هدوء ليرى منها الحياة. اشتغل على الانسيابية والعفوية والمباغتة وأحاول التركيز على التصويري لتشاركني مخيلة المتلقي في الرسم.

أنت من الشعراء الذين لا يحمّلون القصيدة فوق طاقتها، تتركها تسيل بكل حيوتها كدمعة ماء لإحياء صحراء كاملة، لا تعّول على الفكرة بقدر الحدث الشعري، وتترك للعين السينمائية أن تحفر في النص كما ينبغي، إلى أي مدى يمكن أن تثق بالصورة السينمائية أو القصيدة المشهدية كي تقود النص؟

 لا أحمل القصيدة فوق طاقتها، أكتفي بأقل الكلام معتمدآ على قوانين الفيزياء في كثافة الكتلة. أخلق الحدث الشعري وأجعلك تتوقع حدوثه، ولكن لم تتصور أنه سيحدث بهذه الطريقة التي كنت تنتظرها. أعتمد التصويري الدقيق لنكز مخيلة القارئ وتحويلها الى شاشة أعرض عليها قصيدتي بكل شخوصها وأمكنتها، كفلم قصير أنتجته الكلمة. فالنص السينمائي يحتاج لقدرة مخرج ومواهب الممثلين والمؤثرات ليقدم لك مشهداً مؤثراً. بينما تستطيع القصيدة خلق كل هذا في صورة شعرية قصيرة.

أنت من الشعراء الذين يؤمنون بالحياة وبقوة الكائن الحر، حاربتَ وخضتَ حروباً ضدّ ما يناقض الحياة سواء في سوريا أو خارجها، دافعتَ وما زلتَ تدافع عما تبقى من الإنسان السوري، إلى أي درجة وظفّت قصيدتك وطعمّتها في الدفاع عن هذا الإنسان الذي فيك؟

يجب على القصيدة ان تدافع عن الإنسان وتحارب أعداءه. القصيدة التزام ووثيقة تثبت حق الانسان في البقاء، والقصيدة أداة قلق للذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يستمر. أحاول تجريد البشرية من عباءة الاديان والقوميات، والوصول إلى جوهر الحياة أقصد فكرة الإنسان، الإنسان الذي أدافع عنه هو الذي أعيشه، الإنسان الحر، ضد كل الشعارات ضد كل القادة ولا ينظر في هوية الضحية.

في نصوصك النثرية أحداث وأفكار وحوادث ومقاطع سردية حكائية تصل إلى درجة القص الروائي، هناك الاشتغال على اليومي المباشر، الذي لا يفسح الطريق للمخيلة لممارسة دورها، وتأخذ اللغة البلاغية قسطاً من بهرجتها ودهشتها، هل أنت منسجم مع هذا التمازج بين السرد والشعر، ومتى يمكننا أن نفهم أن ما يكتبه زادة مجرد استنفار لغوي لحدث عظيم سيجري عاجلاً أم آجلاً؟

– لا شيء يبقى على حاله، فالمسرح تعدّدت مدارسه منذ الخلق، والشعر مرّ بمراحل كثيرة حتى وصلنا قصيدة النثر والنص المفتوح، وعلينا ألّا نتوقف. أحاول خلق التوازن في القصيدة بطريقة إشباع النص سردآ وشعرآ وقصآ، وترك فراغات يفهمها القارئ. أحاول الهروب من الأوزان فهي لا تهمني ولا القوانين، أفكر بالجديد والقوانين لن تجعلني أكتشف ماهو جديد.

هل استطاع نصك مواجهة الخراب الذي كبر فينا؟

أعتقد أن النص الذي أكتبه استطاع تقييم الخراب الذي حل بنا واستطاع تفسير الخراب والإمساك به في ملامح الناس وتحت جلودهم.

أخيراً ما الذي يمكن أن يخبرنا به محمد عن أيامه المقبلة، شخصياً وشعرياً وروحياً؟

هناك أنشطة ثقافية يتم التجهيز لها، وكتابان قيد الظهور، وإقناع داليا بأن الحياة ستتوقف في غيابها.

 

 

اقرأ/ي أيضاً:

رحلة طويلة ما بين خوفين

بين الانتماء واللاانتماء: كره الذات عند المهاجرين الجدد. حوار مع الباحث السوري سلام الكواكبي

نبش في الذاكرة.. مع مغنية الأوبرا السورية نعمى عمران: “صوتي هو فرحي وحبي واستقلالي وحريتي”

تقرير: الاعتداءات ضد نزل اللاجئين ترتفع مجدداً في ألمانيا

حادثة إطلاق نار جديدة في الولايات المتحدة تسفر عن مقتل 12 شخصا ً