in

ملهاة الخروج و النجاة

العمل الفني: تمام عزام
محمد داود. كاتب وشاعر فلسطيني سوري

قد ينجو المرء من خسارة محققة ويتابع السير في الحياة كأن شيئاً لم يكن. وقد ينجو من سقوط وشيك في هاوية، ثم ينهض ويكمل. قد ينجو من ألف حب عاصفٍ ووجع مزمن في القلب، ثم يرتاح ويمضي إلى حب جديد. وقد ينجو من العاصفة، ينحني أمامها إلى أن تمر وينطلق.

وقد ينجو من مرض أو موت، أو من سجن، من عائلة، أو قبيلة، وطن وانتماء، قد ينجو من كل شيء إلا الذاكرة.

هكذا رمتنا الحرب بعد سنوات الجمر والحصار، على أطراف البلاد، كل البلاد، أسرى مقيدين بذاكرة ملعونة مشحونة بالدم والكراهية، لوثت أطفالنا وطفولتنا التي تسربت من شقوق الخوف، وتركتنا نحمل ذاكرتها، ذاكرة الحرب فقط.

لن أتحدث هنا عن الذين أُخرجوا مكرهين من بيوتهم وأراضيهم في اتفاقات مشبوهة ليصلوا إلى مناطق أخرى أكثر شرّاً وخطراً. فقد خرجوا من الموت إلى الموت ولم ينج أحد منهم، حتى الذين بقوا أحياء، ينتظرون الموت كل يوم وكل ساعة.

هناك من خرجوا وغادروا إلى الجوار، الجوار الأخوي المر، والذين عاشوا (والعيش هنا مجاز لا يمتّ إلى حقيقة الحياة)، وهؤلاء عانوا القلة والجوع والعنصرية بأسوأ صورها من الأخوة بالذات، وتحت رقابة المؤسسات الرسمية والدولية.

هناك من خرجوا مرة أخرى من الجوار إلى المجهول. وفقط الذين استطاعوا النجاة من الموت وصلوا إلى بلاد أخرى مختلفة كل الاختلاف عن الذي كان (إيجاباً أو سلباً)، وهنا ازداد الشعور بالخسارة بحساب رجعي، والسؤال الأثير: لماذا لم تكن بلادنا كهذه، وهي التي تفيض بالنضارة والخيرات؟

شعور النجاة غادرهم، وهم المربوطين بذاكرة الماضي وذاكرة أخرى جديدة تدور في أسئلة الماضي نفسه الذي أوصل كل شيء إلى الخراب.

“هذه البلاد لأطفالنا”

“هذه البلاد لأطفالنا”.. هكذا رددوا بعدما فقدوا الأمل باندماج إجباري يعيد المرارات أقوى وأكبر، وقد تجاوز معظمهم عمر الإنتاج والعطاء ليستطيع التأسيس مرة أخرى وهم الذين أسسوا وبنوا وحلموا بنهاية هادئة تصل بهم إلى موت بلا أسياد.

نعم هذه البلاد الجديدة لأطفالنا الذين ولدوا قبيل الحرب بقليل أو أثناءها، هؤلاء الذين علينا أن ننسيهم كل ما يتعلق بتلك السجون_الأوطان، ومع كل حياة جديدة تتجدد الذاكرة الكثيفة وتنعكس على كل سلوك يقوم به من سُمي قسراً “لاجئ”، وهو يتخيل فيما لو جاء هنا قبيل عقدين أو حتى لو أنه ولد هنا وانتمى لهذه الـ هنا. فهل نجونا؟

عشت في تلك البلاد تحت مسمى أقل من لاجئ، ومع وصول الحرب إلى بابي غادرت البلاد إلى مجهول وضِعتُ فيه، ثم ارتكبت المغامرة وانطلقت إلى مجهول ثانٍ دون أمل في الوصول إلى ضوء واضح يحكي قصة العائلة والأطفال، فقط محاولة الخروج من كثافة الوقت والمكان والألم، وصلت إليه وانتظرت مع أطفالي، فلم يسعفني الصبر وأنا المهدد كل ثانية بالطرد والسجن وضياع أطفالي كما ضعت لأربعة عقود في تلك البلاد الوطن، هربت مرة أخرى عابراً البحر واحتمال الموت والهروب من أسئلة الحياة القاسية لأصل وانتظر أياماً وشهوراً أن أصبح لاجئاً بشكل رسمي، وبعدها انتظار وصول عائلتي، ووصلوا. فهل نجونا مع كل هذا السواد في قلوبنا؟

وتبقى الأسئلة التي لابد منها في ملهاة النجاة هذه: 

  • إن نجونا ذات حلمٍ من غبار الفناء.. فهل سننجو من طحين الذكريات؟
  • إذا ما نسينا سيول الدماء التي كبّلتنا.. هل سننجوا من أنين النائحات؟
  • إذا ما عبرنا النهر سيراً على الحلم.. فهل من مياهٍ تعود بنا إلى البدايات؟
  • إن تركنا كل حزن اللغات وامتطينا سحر الأبجدية.. فهل ستسعفنا الأغاني لنرقص فوق وحشة الغابات؟
  • لو زرعنا جذور الورود التي رافقتنا في الرحيل.. هل سيعطي تراب الغروب لأشلائنا لون الحياة؟
  • إن نثرنا القول المقدس في جنون الريح.. فهل ستُمهلنا القوافي كي نربّي المفردات؟
  • لو ركبنا البحر مرة أخرى وعدنا من منافينا إلى بلاد التيه والأحلام.. فهل ستتركنا العواصف نروي قصة الأحياء للأموات.

اقرأ/ي أيضاً:

هل نجوتَِ؟؟ عن مفهوم النجاة والهروب لدى لاجئين سوريين في ألمانيا

فيلم “إلى سما”.. كيف سمح العالم بحدوث كل هذا؟

الولاية القضائية العالمية هي إنصاف للضحايا وتعزيز للعدالة

أكلات شتوية للرجيم

سيدات سوريات ينجحن في إقامة وإدارة مشاريعهن في ألمانيا.. “ساعي الحب”