in

كي لا نبقى في حلقاتٍ مفرغة.. عن علاقة الهجرة واللجوء بالاضطرابات النفسية والعنف

علاقة الهجرة واللجوء بالاضطرابات النفسية والعنف
علاقة الهجرة واللجوء بالاضطرابات النفسية والعنف

د. جمال خليل صبح. أخصائي نفسي، فلسطيني-سوري مقيم في ألمانيا
تعتبر ظاهرة الهجرة طوعياً وقسرياً قديمةً قدم الوجود الإنساني ذاته، وإن كان القرن التاسع عشر وُسم بأنّه “عصر القلق” بحق فإن القرن العشرين هو “عصر الهجرة” بلا منازع. لكنّ الظاهرة لم تكن وليدة الحروب والكوارث فقط، بل أضحت من استجلابات السلام ومتطلّبات النظام العالمي الذي تم إرساؤه بعيد الحرب العالمية الثانية بالاقتصاد والعمران. ورغم انصياع ظاهرة الهجرة للكشف والتحليل من نواحي سياسية، اقتصادية واجتماعية وثقافية، إلا أن الجانب النفسي فيها ظل الأكثر تواضعاً من بينها جميعاً.

ومع تقدّم العلوم النفسية بشكل عام والطب النفسي بشكل خاص، برز اهتمام بدأ يطرح نفسه بثقة في السنوات الأخيرة حول الآثار النفسية للهجرة واللجوء عند الأفراد والجماعات على حدّ سواء. أمّا السؤال الذي كان يترّدد بسياقات مختلفة فهو: هل تؤدي الهجرة إلى الاضطرابات النفسية؟
لا تبدو الإجابة على تلك الدّرجة من السهولة، خاصةً ونحن أمام ظاهرتين (الهجرة/الواقع النفسي) تتسمان بصعوبة كبيرة منهجياً ومفاهيمياً، تتشعب فيهما العلاقات والعوامل المؤثّرة من بلد ومجتمع إلى آخر، ومن فرد ومجموعة ثقافية إلى أخرى، بحيث لا يستقيم فيها تعميم مرضٍ بأي حال من الأحوال. 

لنأخذ ألمانيا على سبيل المثال. فبخلاف الدول الأوروبية ذات التاريخ الاستعماري/الكولونيالي كفرنسا، بلجيكا والمملكة المتحدة، تعتبر ظاهرة الهجرة جديدة نسبياً عليها. بعد الحرب العالمية الثانية كان هناك ثلاثة سياقات/موجات ارتبطت بألمانيا كموئل للمهاجرين:
الأول بدأ مع الحاجة إلى الهجرة العاملة حيث استقدمت الحكومة الاتحادية مئات آلاف العمّال (1955-1973) من إيطاليا، اليونان، البرتغال، يوغسلافيا السابقة، تركيا والمغرب. ومع بعض التغيّرات التي طرأت على العملية وسيرها بالإضافة إلى قدرة بعض العمّال على استجلاب عائلاتهم كان لدينا في نهاية الثمانينات حوالي 4,5 مليون مهاجر، مثّل الأتراك النسبة الغالبة منهم. 
أما الموجة الثانية والثالثة من الهجرة فكانتا نتيجة انهيار الاتحاد السوفييتي واندلاع الحرب في يوغسلافيا السابقة، حيث جاء إلى ألمانيا حوالي 3 ملايين، بما بات يعرف بـ”المستوطنين الألمان” من جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز أو “الألمان الرّوس” وغيرهم من مئات الآلاف من الفارّين من حروب التطهير العرقي في البلقان الملتهب.
بغض النظر عن موجة اللاجئين الأخيرة والتي ستعتبر من الآن الموجة الرابعة يعيش في ألمانيا حوالي 8 ملايين أجنبي وضعفهم من أصول مهاجرة، يمثّلون بذلك حوالي 16 % من عدد السكان، ويشكل المسلمون الأتراك أو من أصول تركية النسبة الأكبر منهم (26% مع 4,5 مليون). 

هل المهاجرون حقاً أكثر اضطراباً؟ 

ليس هناك إجابات قاطعة حول علاقة الهجرة بالصحة النفسية للمهاجرين، ولكن تزداد المؤشرات التي تكشف عن طبيعة هذه العلاقة المركّبة. فالدراسات الأكاديمية المتزايدة (حوالي 60 دراسة) والمشاهدات الإكلينيكية في أقسام الطب النفسي والعيادات الخارجية في المدن الألمانية الكبيرة مثل برلين، ميونيخ ومانهايم، تشير إلى خطورة عالية للإصابة بالاضطرابات النفسية (التي تحتاج للعلاج والتدخّل المهني) عند المهاجرين أو من أصول أجنبية، تكاد تصل الضعف مقارنةً مع تلك النسبة عند المجتمع الألماني المحلي، وتشكل الاضطرابات الوجدانية وأبرزها الاكتئاب مع الاختلالات العقلية العميقة والتي تسمى الذّهان (الاعتقادات الخاطئة والتوهّمات غير العقلانية مع الانفصال عن الواقع) أبرز ملامحها العامّة.
يعدّ الاكتئاب أحد أخطر الاضطرابات العقلية وأكثرها كلفةً، وهناك ما يشبه الإجماع على وجود الاكتئاب في الثقافات والمجتمعات الإنسانية كافّة، لكن طريقة التعبير عنه وتمظهره لدى الأفراد تبقى عرضةً لجملة من العوامل أبرزها الخلفية الثقافية والمعايير والقيم المجتمعية التي نشأ فيها هؤلاء. 
في ألمانيا هناك زيادة ملحوظة لدى الأشخاص من أصول أجنبية في التردد على العيادات لأسباب تبدو ظاهرياً على علاقة بالشكاوى الجسمية والأوجاع المختصّة بالبدن والتي ليس لها أساس طبّي واضح (الاضطرابات الجسدانية /somatoform). بالإضافة إلى مؤشرات خطيرة على ارتفاع نسبة الانتحار بين الفتيات والنساء من أصول تركية، والشباب من أصل روسي. عدا الاكتئاب والتمظهرات الجسدية واضطرابات الخوف واعتلالات النوم المختلفة، هناك ما يشير إلى ارتفاع ملحوظ في تشخيص حالات ذهانية مع أوهام ومعتقدات غير واقعية (مثل الاعتقاد بالملاحقة والعظمة والرؤيا عن النبوّة والخلاص البشري) لدى عدد كبير من الأفراد ذوي أصول مهاجرة أو أجنبية.
ورغم صعوبة تقصّي الظاهرة وتشخيصها لأسباب مختلفة هناك رأي عام بين أخصائيي الصحة النفسية والطب النفسي بأن “الهجرة” بحد ذاتها لا تؤدي بشكلٍ آلي إلى الاضطراب النفسي لكنّها أحد أكثر عوامل الخطورة في الطريق اليه. 

Heimweh الحنين.. لعلّه المحرّض الأول

لكنّنا لو دقّقنا قليلا بين ظاهرتي “الهجرة” و”اللّجوء” لوقفنا أمام حقيقة أكثر وضوحاً وأشد ضرراً بالصحة النفسية. حيث بات من شبة المؤكّد أن عدداً كبيراً من اللاجئين الآتين من بيئات شهدت حروباً وتهجيراً قسرياً مع خبرات فردية مختلفة من الانتهاكات الإنسانية (ظروف الاعتقال والتعذيب والامتهان الجنسي والجسدي) هم الأكثر استعداداً للأذية والاضطراب النفسيين. لعلّ اضطراب الشدة النفسية التالي للصدمة (Post Traumatic Stress Disorder) هو أبرز ما يمكن مشاهدته لدى أكثر من نصف اللاجئين، فيما يختبر حوالي 80% منهم أعراضاً متفرّقة من تشكيلات التوتّر النفسي العام المجبول بالحزن والقلق وهبوط المزاج وانتفاء مشاعر الرضى. 
ورغم تداخل عوامل كثيرة تؤثر في الظاهرة مثل الجنس والعمر ودرجة التعليم ومستويات الدّخل المادي، والفرص المتاحة للعمل والارتقاء الاجتماعي وطبيعة السّكن ووتوفر مصادر الدّعم الاجتماعي وشبكة العلاقات، إلا أن جميع الملاحظات والتقنيات التشخيصية تذهب إلى أنّ “الحنين للوطن” (كما تعبّر عنه الكلمة الألمانية Heimweh) أو الشعور بالخسارة النّاجمة عن فقدانه مؤقّتاً أو دائماً هو المحرّض الأول الذي تدور في فلكه كل الأسباب المتوفّرة على أهميّتها.

عدوى الضغوط النفسية جيلاً بعد جيل

أما الأخطر فهو وجود إمكانية كبيرة لانتقال عدوى وخبرات الاضطرابات النفسية إلى الجيل الثاني من المهاجرين، أي أبنائهم المولودين في ألمانيا والذين لا يعرفون أوطاناً أخرى غيرها. لكن هذه الصورة تحجب صوراً أخرى قد تساعد في فهم طبيعة العلاقة بين الهجرة واللجوء والاضطرابات النفسية والضيق. إنها العنصرية والتمييز وانتفاء العدالة الاجتماعية في المجتمعات المضيفة. 
أغلب هؤلاء المهاجرين سكنوا وعائلاتهم في بيوت مكتظّة وأحياء فقيرة منعزلة، فضلاً عن خبرات مختلفة من ضروب التمييز الديني والقومي ضدّهم. فنسب الفقر والبطالة بين المهاجرين أو من أصول مهاجرة تعدّ أعلى بثلاثة أضعاف عن مثيلاتها عند المجتمعات المحلية الألمانية، فضلاً عن صعود واضح لتيارات اليمين المتطرّف التي لا تتحرّج من اعتبارهم “أغراباً/Ausländer” يشكّلون خطراً على صفاء الملامح الألمانية المفترضة في المجتمع أو مواطنين من الدرجة الثانية في أحسن الأحوال. 

ثنائيات جاهزة: إسلام/ إرهاب – هجرة/ عنف

لكنّ القصة بدأت تأخذ منحى آخر مع ازدياد اللاجئين والمهاجرين من أصول وبيئات إسلامية وعربية. فبدلاً من محاولات الكشف عن الأسباب في الاقتصاد والاجتماع وعلم النفس، يفضّل هواة وأنصار التعميمات والأفكار المسبقة الذهاب نحو “الثقافة” و”الأديان” و”الأصول العرقية”. منذ فترة هناك أجواء تشيع وجود علاقة أصيلة بين “الهجرة” والعنف” أو بين المهاجرين من أصول مسلمة والإرهاب. 
في أجواء الشحن والاستقطاب الإعلامي التي نشهدها حالياً في ألمانيا وأوروبا، باتت نذر توجيه النقاش من “أزمات الهوية المركّبة” التي يعانيها المهاجرون المسلمون والعرب وأبناؤهم المهمّشون، إلى ارتباط الإسلام الآلي/الأزلي بالإرهاب أكثر حدّةً وتواتراً، رغم عدم وجود ما يشير فعلاً إلى أن التربية والتعليم الدينيين هما المحرّكان الأساسيّان للإقدام على العمليات الإرهابية (دراستان حديثتان أكاديميتان ألمانية وهولندية تشيران إلى أن أغلب المجاهدين من أبناء المهاجرين لم ينشأوا في بيئات أسرية دينية، كما يطيب لكثير من الشعبويين القول، بل كانوا أبناء أسر شبه ليبرالية وعلمانية منفتحة لا أثر فيها للتشدّد الديني)، فضلاً عن علاقة واهية تربط أوضاع اللجوء والاضرابات النفسية من جهة بالاستعداد للإتيان بأعمال العنف والإرهاب من جهة أخرى. 

في النهاية ينبغي القول بأن “التعددية الثقافية” سواء في ألمانيا وغيرها مصير لا مهرب منه. بدلاً من النقاش حول الأحقيّة المستندة إلى الأيديولوجيات، على الأخصائيين النفسيين وغيرهم من المهتمين بأحوال الصحة عامةً محاولة تشكيل جماعات ضغط من أجل شروط وظروف أفضل تتيح إمكانية الحد من الآثار السّلبية للهجرة واللجوء، مع ضرورة توافر بدائل علاجية نفسية للجماعات والأفراد وأبنائهم الذين يشكّلون مصدر خطورة. هذا ما يمكن عمله للحد من الشرور وتخفيف معاناة البشر، غير ذلك سنقضي أوقاتاً طويلة في حلقات شيطانية مفرغة.

اقرأ/ي أيضاً:

النظام الصحي النفسي في ألمانيا.. أين تتجه ومن تستشير وكيف تحصل على الخدمات النفسية
الاضطرابات النفسية ، هي أيضاً تلاحق السوريين…

الصناعة الألمانية تواصل التعافي من ركود كورونا

الصناعة الألمانية تواصل التعافي من ركود كورونا

لقاح جديد يمنع الإصابة بفيروس كورونا ويوفر مستوى عالياً من الحماية

“أخبار جيدة”. لقاح جديد يمنع الإصابة بفيروس كورونا ويوفر مستوى عالياً من الحماية