in

شجون نسوية في ذكرى الثورة السورية

طارق عزيزة. كاتب سوري من أسرة أبواب

تعاني المرأة في معظم المجتمعات العربية والشرق أوسطية، ومنها سوريا، معاناة مزدوجة نظراً لكونها تتعرض للقمع والاضطهاد على مستويين. تشترك في المستوى الأول مع الرجل، من حيث القمع السياسي والبؤس الاقتصادي، في بلدان تعاني من الفقر والبطالة، وتردّي أوضاع حقوق الإنسان بفعل الاستبداد المديد. وفي المستوى الثاني تنفرد المرأة بمعاناتها الخاصة، إذ تنال قسطاً وافراً من القهر الاجتماعي والتمييز والاضطهاد بشتّى صوره، بذريعة العادات والأعراف والتقاليد الموروثة التي تدعمها وتكرّسها قوانين وتشريعات تكرّس الهيمنة الذكورية وتنظمها، وترعى العلاقات التمييزية ضدّ النساء، إذ تنهل من إرث ديني يتناقض في مضمونه ومنطوقه مع حقوق المرأة.

على ذلك، كان من المفترض أن تشكّل الثورة السورية فرصةً جدّية أمام النساء، لاسيما المشتغلات في الشأن العام إجمالاً وفي إطار العمل النسوي على نحو خاص، للدفع باتّجاه تحوّلٍ اجتماعيٍّ عميق يستند إلى البعد الجندري، بحيث لا يكتفي بالمستوى السياسي للتغيير، بل يمضي في خلخلة نظام العلاقات السائد، والقائم على أسس ذكورية تأسر المرأة في قوالب منمّطة، تحدّ من حريتها وتلغي استقلاليتها.

هكذا شاركت أعداد كبيرة من النساء بفاعلية في المظاهرات والاعتصامات السلمية، منذ بدايات الثورة في آذار/مارس 2011، وأسهمن في التنسيق لمختلف الأنشطة الاحتجاجية، إذ ضمّت العديد من تنسيقيات الثورة ناشطات في صفوفها، فضلاً عن الإسهام في الجهد الإعلامي، عبر التواصل مع وسائل الإعلام لتغطية الأحداث ونقل ما يجري في سوريا إلى العالم.

لم تترك النساء فعلاً ثورياً لم يقمن به، وبذلن كلّ ما يمكن في خدمة قضية الحرّية سعياً لانتصار الثورة وتحقيق أهدافها، فكانت النتيجة أن تعرّضن، شأنهنّ شأن الثوار والنشطاء من الرجال، للملاحقة والاعتقال والتعذيب على يد قوات الأسد ومخابراته، وقضت كثيراتٌ أثناء الاعتقال، فضلاً عن تعرّض العديد من المعتقلات لانتهاكات جنسية بلغت حدّ الاغتصاب، وفق ما وثّقته تقارير المنظمات الحقوقية المحلّية والدولية.

مع التصاعد التدريجي لدور الحركات الإسلامية عموماً، ونسخها الجهادية الأكثر تطرفاً على نحو خاص، فقدت الثورة السورية كثيراً من التعاطف الدولي والمحلّي، فالنماذج التي فرضها الإسلاميون في مناطق سيطرتهم بلغت من الاستبداد السياسي والاجتماعي درجاتٍ تضاهي ما كان الحال عليه تحت استبداد نظام الأسد المتهالك أو تزيد، إذ فرضت أيديولوجيتها الدينية على المجتمعات الخاضعة لسلطتها، وعادت بها إلى وضع “أبوي/ بطريركي” تدهورت في إثره أوضاع النساء بصورة غير مسبوقة، وانتُهِكَت حقوقهنّ على أوسع نطاق.

النساء والإسلاميون

ومشكلة النساء مع الإسلاميين (أو بالأحرى مشكلة الإسلاميين مع النساء)، على اختلاف تنظيماتهم وتفاوت درجات تشدّدهم، ليست “الفهم المغلوط” أو “التطبيق الخاطئ” للنصوص الدينية وأحكام الشريعة، على نحو ما قد يرى البعض أو يبرّر، وإنّما في الأساس الذي تقوم عليه مشاريع الإسلاميين. ذلك أنها، ككلّ مشروع سياسي يستند إلى الدين ويتلطّى به، تنطوي على أيديولوجيا تحطّ من شأن المرأة، فالنصوص الدينية المهيمنة، والتي لم تخضع بعد لأي عملية مراجعة أو نقد أو “إصلاح ديني”، هي نفسها ما يفنّد كل المزاعم والادّعاءات التي يروجها من يزعمون الاعتدال من الإسلاميين عن احترام المرأة وضمان حقوقها. أمّا الكلام الوردي الذي يطلقه بعض النشطاء والناشطات أو المثقفين والمثقفات والسياسيين والسياسيات من غير الإسلاميين، عن “إنصاف الإسلام للمرأة”، وإن أطلقه البعض عن حسن نية استناداً إلى قراءات شخصية منفتحة ومتنورة للإسلام، لكنه عند غيرهم تواطؤٌ ضمني مع الإسلاميين طمعاً في مكاسب سياسية، أو نتيجة الخضوع لإرادات الجهات الداعمة وأجنداتها.

في المحصلة، كانت الانعكاسات السلبية لسيطرة الإسلاميين أضعافاً مضاعفة على النساء وحقوقهن، وباتت مشاركتهنّ في الشؤون العامة وأمور السياسة ومشاغلها في مناطق سيطرتهم شبه معدومة. حتى أن محاولات العديد من المنظمات النسوية للعمل داخل “المحرر” – كما كان يحلو للبعض تسمية مناطق سيطرة المعارضة – ومحاولتها تنفيذ مشاريعها التي تعنى بالنساء، اصطدمت بواقع السلطة الذكورية المتشددة المغلفة بأردية الدين والشريعة. وبالتالي، لم يكن هناك فرصة للنشاط السياسي أو الحقوقي أو التوعوي في أوساط النساء. في أحسن الأحوال بقي العمل في أطر الأدوار التقليدية كتعليم النساء أشغالاً ومهناً يدوية، قد تساعدهنّ في تلبية الحاجات المعيشية، دون المس بالأيديولوجية الذكورية المهيمنة.

نتائج مخيبة رغم الحضور البارز منذ البدايات

إنّ حضور النساء البارز والفاعل في بدايات الثورة أنعشَ آمالهنّ بأنّ ربيعاً حقيقياً ينتظرهنّ كنتيجة طبيعية لمشاركتهنّ في صنع التغيير المنشود، لكنّ النتائج جاءت مخيّبة، إذ شملت فشل التغيير السياسي ككل وتراجع أوضاع النساء وتردّي أحوالهنّ أكثر فأكثر، فكانت خيبتهنّ شأنها شأن معاناتهنّ، مضاعفةً ومزدوجة.

ربما حان وقت الاعتراف بأنّ قضية المرأة لم تكن في صلب العمل الثوري، وأنّ الفضل في إبقائها قضية حيّة أساسية وملحّة يعود لجهود من عملن وعملوا بإصرار على عدم الفصل بينها وبين القضية السورية العامة، من نسويات ونسويين جادّين في نضالهم الجندري، مقابل نساء كثيرات تبنّين خطاباً ذكورياً يحطّ من شأن المرأة ويسخّف قضيتها وحقوقها، متماهياتٍ بذلك مع قوى ذكورية بطريركية تحت شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”!

اقرأ/ي أيضاً:

في اليوم العالمي للمرأة.. طريق الحرية ما يزال طويلاً

الأدب النَّسوي في المشهد الثقافي العربي بين القبول والرَّفض

جدران هذا القفص

توصيات من المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا للحد من انتشار فيروس كورونا

بمرسوم حكومي.. إيطاليا بالكامل تحت الحجر الصحي بسبب فيروس كورونا