in

سلسلة في الجنس وعن الجنس بدون تابوهات 9: أزمة الذكورة الجنسية وتفاعلاتها الجنسانية الاجتماعية – الجزء الأول

د. بسام عويل اختصاصي علم النفس العيادي والصحة النفسية والجنسية

في ظل التغيرات الاجتماعية التي طرأت على تنظيم الحياة الاقتصادية في العقود الخمسة الماضية، جراء التوزيع الجديد للأدوار الاجتماعية الذي فرضه النظام الإنتاجي الحديث، وما رافقها من مسيرة تحرر المرأة وتعلمها، ودخولها سوق العمل ومنافستها للرجل، وانتشار وسائل تنظيم الحمل، واشتداد أزمة البطالة بين الذكور ، وأزمة السكن، والسيطرة المتنامية للإعلام، بدأ الدور الذكوري الثقافي التقليدي بالانحسار في مكانته في البنية التنظيمية الاجتماعية الأبوية في الأسرة والمجتمع ككل.

الذكور وقلقهم الوجودي

ولعل هذا الانحسار هو ما جعل ويجعل الذكور حالياً عموماً يعيشون قلقاً وجوديّاً يهزُّ كيانهم، ويدفعهم للدفاع عن ذكوريتهم وفحولتهم التي أضحت مادةً للجدل حتى بين الذكور أنفسهم بشأن الحاجة لها بشكلها التقليدي.

ففي المجتمع الحديث، أصبحت السمات الذكورية التي كانت تعتبر في السابق نموذجية لجهة دورها في التنظيم الاجتماعي والأسري، أصبحت نفسها بمثابة نقطة انطلاق للتهجّم على وجودها عند الذكور، وبَدأ التعامل معها على أنها “موضة قديمة” بَطلَ مفعولها وفقدت معناها. فتجد الأبناء يشكون من ضعف التواصل مع آبائهم أو قسوة تربيتهم لهم، والنساء يشتكين من ضعف رومانسية أزواجهن أو شركائهن، وضعف قدرتهم على التعبير عن مشاعرهم تجاههن. كما أن أرباب العمل بدأوا يفضلون عند موظفيهم من الذكور صفات أخرى عدا عن القوة العضلية والطاقة الذكرية التقليدية كما في السابق، مثل القدرة على التواصل والابتسام وفهم المشاعر وهي من السمات الأنثوية. 

والثقافة الذكورية التي هيمنت بأدواتها على العلاقات الاجتماعية والإنتاجية عبر آلاف السنين بدأت تتراجع في العقود الخمسة الأخيرة، مع دخول المرأة بقوة إلى فضاءات المنافسة معهم. وإذا كان معيار الذكورة المتمثل في (XY) مازال هو نفسه دون تغيير، فإن الهوية الذكورية لم تعد كما كانت، وهو ما يدل على أن الصفات الجينية لم تكن يوماً متجانسة مع الصفات التي ألصقت بها اجتماعياً وثقافياً. 

انتصار النسوية

بدأت الثورة النسوية في العقود الأربعة الماضية تنافس الثقافة الذكورية، وفككت ميكانيزماتها السلطوية، وخلقت وضعاً جديداً جعل الذكور اليوم في حالة من الضياع والتخبّط يحاولون البحث عن مكان جديد لهم في المجتمع الجديد، بعد إقرارهم بالهزيمة واعترافهم بسقوط إمبراطوريتهم وانتهاء صلاحية سلطتهم.

فقد ساهمت النساء في العقود القليلة الماضية في توسيع دورهن بشكل كبير، وإثرائه بالنشاط المهني، وزيادة الاستقلالية الاقتصادية، والمشاركة في الشؤون العامة، والمنافسة على الوظائف. وهو الذي انعكس إيجابياً على صحتهن النفسية والجنسية، بالمقارنة مع سوئها عند الذكور الذين أصبحوا يرتادون العيادات النفسية والجنسية بحثاً عن ذكوريتهم.

وبالطبع علينا أن نضع بالحسبان أن هذا الإنتصار الذي حققته الحركة النسوية لم يأت من فراغ، وإنما من نضال طويل استمر مئات السنيين، بدأته النساء بالكفاح المرير من أجل الحصول على أبسط الحقوق في التعليم، والحياة الاجتماعية والقانونية. فقد استفادت النساء من الأجواء الحضارية الإنسانية التي فرزتها الأنظمة الديمقراطية الليبرالية (كالحقوق المتساوية والشراكة المجتمعية) التي طفت على السطح وسوِّقت في وسائل الإعلام منذ الستينيات من القرن الماضي، وعملت الحركة النسوية على الاستثمار الصحيح لها بتثبيت موقع النساء في المجتمع الجديد.

وبمعنى آخر، فإن أزمة الذكورية في الواقع المعاصر أتت نتيجة التغيرات التي طرأت على المحددات والمعايير الثقافية والاقتصادية التي شملت الذكور والإناث بنفس الوقت، ولكن الذكور بخلاف الإناث أظهروا ضعفاً في مقدرتهم على التكيّف مع هذا الواقع الجديد، وشكوكاً أنتجتها ذكوريتهم المهزومة بما يخص إمكانية قيامهم بلعب أدوار إيجابية في الواقع الجديد. ومن الملاحظ أن شدة هذه الأزمة تتناسب طرداً مع حجم الخسائر الذكورية التي مُني بها الذكور نتيجة سقوط المجتمع الأبوي، بمعنى أنها أشد عند الذكور في المجتمعات التي كانت ثقافتها الذكورية القضيبية أوسع وأقوى، كما هو الحال في ثقافتنا العربية والشرقية على وجه الخصوص.

الحروب والديكتاتوريات وأزمة الذكورة

وعلينا أن لا ننسى دور الحربين العالميتين وما تلاهما من حروب وصراعات عسكرية في إنتاجٍ قسري لمجتمعات لعبت فيها النساء الدور الأهم في تربية الأطفال ورعايتهم وإعالتهم، في ظل فَقْد العنصر الذكري الحاضر والفاعل في البنية المجتمعية والأسرية وغيابه كلياً. فقد أنتجت تلك الحروب جيلاً في ثقافة نسوية أخذت بالتدريج تحل مكان الثقافة الذكورية الناظمة للحياة الثقافية والاقتصادية. حتى بعد عودة الذكور مكسورين ومهزومين من الحرب في أوروبا مثلاً، وجدوا أنفسهم في ظل تنظيم اجتماعي واقتصادي جديد ببصمات نسوية واضحة عليهم الـتأقلم معه.

أما في البلاد العربية فلم يكن الأمر مختلفاً كثيراً، وبالرغم من عدم اشتراك هذه الدول في الحروب، إلا أن الحروب أنتجت واقعاً سياسياً جديداً حملته الديكتاتوريات العسكرية، حَطَّم من الداخل إلى درجة بعيدة، بُنية الثقافة الذكورية بأدوات ثقافة ذكورية ذات سمات أخرى قلّمت أظفار البنى الاجتماعية التقليدية الأبوية، ببنائها لمؤسسات الدولة على الطراز الغربي، ما أوجد فسحة استطاعت فيها النساء في الدول العربية إيجاد مكان لها في المنظومة الإنتاجية وبالتالي الاجتماعية.

بدأت معالم التنظيم الاجتماعي الجديد في المجتمعات العربية بالتبلور مع تفاقم أزمة البطالة والسكن وكذلك أخذت مؤسسات الدولة دورها في تنظيم الحياة الاجتماعية كبديل عن السلطة الأبوية العشائرية والقبلية الذكورية المطلقة، ما أدى بالتدريج إلى سحب البساط من تحت ثقافة التفوق الذكوري وأدواره الاجتماعية وامتيازاته وسلطته التي كان يحظى بها، وبالتالي إخصاء شخصيته وبعثرة عناصرها القضيبية الناظمة لها. وهو الأمر الذي أدى على المستوى الجنساني، إلى تفكيك ثنائية الفاعل والمفعول به التي كانت تُشكّل الحامل الأساسي في التنظيم الجنساني الثقافي للعلاقة الذكرية الأنثوية. 

يتبع..

مواد أخرى ضمن سلسلة في الجنس وعن الجنس بدون تابوهات:

سلسلة في الجنس وعن الجنس بدون تابوهات 8: كيف نحافظ على جذوة الرغبة الجنسية مع الشريك متقدة

سلسلة في الجنس وعن الجنس بدون تابوهات 7 : الفروق بين الاستمناء الطفولي ومثيله في المراهقة والكبر.. الجزء الثاني

تشديد سياسة الهجرة في فرنسا: إجلاء 1600 مهاجر من مخيمات باريس

“نخسر نهار مدرسة أحسن من خسارة مستقبلنا”.. إضراب الطلاب مستمر في لبنان