in

البيروقراطية مرض عضال

Picture - Alliance/DPA

إيهاب بدوي – رئيس تجمع الشباب السوري

ها أنا هنا أمضي عامي الثاني في ألمانيا، البلد الذي تغزو التكنولوجيا المتطورة مفاصل الحياة فيه، والذي يعد من أولى دول العالم من حيث براءات الاختراع في المجالات المختلفة سعياً نحو تسهيل حياة الإنسان ومساعدته على تحدي صعوبات العصر.

البلد الذي يبهرك كل يوم بشيء جديد لم تعرفه أو تسمع عنه من قبل، ومع كل النجاح والتكنولوجيا المبهرة في هذا البلد تصدمني يومياً البيروقراطية التي تهيمن عليها إلى الغرق حتى أذنيه.

فلم أتوقع هنا أن يستغرق البت وإصدار القرار في قضية ما شهوراً أو ربما سنوات، أو أن تفقد أوراق قضيتك وتضيع ضمن مؤسسة حكومية، أو أن يرتكب أحد الموظفين أخطاء قادرة على إيصالك إلى الإفلاس وتجريدك من ممتلكاتك، كما يحدث في بلدان “العالم الثالث”، أو أسوأ أحياناً، أو كأننا نعيش في عصر ما قبل التكنولوجيا، لم أتوقع أن مواطناً ألمانياً يحتاج إلى شهر أو أكثر؛ ليستطيع الحصول على موعد مع دائرة حكومية، أو ينتظر أكثر من شهر؛ ليحصل على موعد مع الطبيب.

يتذمر بعض المواطنين الألمان باستمرار من البيروقراطية التي هيمنت على حياتهم، لكن المؤسف في الأمر أنهم عندما يتحدثون عن ذلك، يبدون مستسلمين لها وكأنها قَدَر لا يمكن التخلص منه، ويعجزون عن إيجاد حل يمكن أن يوقفها.

سمعت بوجود محاولات وأفكار عديدة ومستمرة للتخفيف منها على الأقل في مؤسسات الدولة، ولكن لا تستطيع أن تلاحظ أن شيئاً تغيّر، ومع أن المواطنين الألمان يمضون الكثير من الوقت في حياتهم اليومية في التنقل بين الدوائر والمؤسسات الحكومية وانتظار المواعيد لإنجاز معاملاتهم، ودائماً ما يواجهون إجراءات ومصطلحات وتعقيدات إدارية لا يفهمونها، فيضطرون إلى اللجوء إلى محامين وخبراء لشرحها لهم ومساعدتهم، فكيف هو الحال إذاً بالنسبة إلى اللاجئين الذين لا يتقنون اللغة أو فن التعامل مع الموظف الحكومي.

كثيراً من الأحيان أجلس منتظراً ساعي البريد بدراجته الهوائية الصفراء، هو ينتظر توقيعي على قائمته وأنا أنتظر ظرفاً مهماً كنت أترقبه منذ أسابيع، وصول ظرف أصبح مصدر سعادة لا توصَف.

عشت هذه البيروقراطية فقط هنا، لم أعِشها في سوريا أو أي بلد آخر أقمتُ به مثل ساحل العاج أو تركيا، ولم أشاهد من قبل هذا العدد من صناديق البريد على أبواب المنازل، ولم أتوقع أن ألتقي بساعي بريد من قبل مع تطور الحكومات الإلكترونية. كنت أعتقد أن من عاش عصر الرسائل الورقية هم أجدادنا أو كبار السن الذين يملؤهم الحنين إلى البريد بعد كل مرة ينسون فيها كلمة السر الخاصة ببريدهم الإلكتروني الجديد.

ككثيرين غيري، أولى تجاربي مع التعقيدات الإدارية في ألمانيا كانت مع معاملة الإقامة التي بدأت بها في شهر تشرين الأول عام  2015 و لم أحصل على رد حتى شهر نيسان عام 2017، فيما كنت أتصور أنه يمكن البت في أمرها خلال جلسة واحدة في ساعة واحدة. من التجارب الأخرى صعبة التصديق عدم وجود شبكة مشتركة للمعلومات بين الدوائر الرسمية مما يضطرك كل مرة لأن تقوم بإصدار أوراق جديدة، ولن تدرك ما يعني هذا إلا إذا قمت به بنفسك، وكأنك في أول يوم لك في ألمانيا، وتزور أول مؤسسة حكومية. ويجب أن تعيد الرحلة الطويلة بين الموظفين وانتظار مواعيد لا تنتهي مع الموظف الذي في كل مرة يخبرك عن ورقة جديدة، وكأنه من الصعب عليه أن يطلب جميع الأوراق مرة واحدة.

فاجأني أيضاً أنه عليّ الاحتفاظ بكل الوثائق والرسائل ضمن مصنفات تعج مكتبتي بها، وكأنني أعمل في دائرة النفوس في سوريا، فرحتي سوف تكتمل عند انقضاء ست سنوات على تاريخ الوثائق الصادرة، حيث سيكون بمقدوري حينها فقط التخلص منها إلى الأبد.

ولكن المصيبة أنني في كل يوم سأستقبل الكثير من الوثائق الجديدة التي ستحل مكان القديمة في نفس المصنفات وفي نفس المكتبة، في انتظار السنوات الست القادمة.

اقرأ أيضاً:

إحصاءات مرعبة في القرن الواحد والعشرين، عن ظواهر العنف ضد المرأة

ألمانيا وقانون الهجرة المقننة: بين البيروقراطية المزمنة والحاجة لسد نقص العمالة

جزء من أزمة سكن اللاجئين تقع على عاتق البيروقراطية الألمانية

من الفقيه إلى المثقف: الوظيفة والدور

نجمة فرنسا الثانية تلغي العنصرية من قاموسها