in

أمعقولٌ ما يأكل هؤلاء ؟

جميل فرح.

كانت فرنسا تحتفل ليلتها بعيد الموسيقى، وكنا في مطعم ‏في وسط باريس بنى شهرته على صنف واحدٍ وحيد ‏من اللحم هو فتيلة البقر المشوية بالثوم والأعشاب. صديقي السوري الوافد لتوه إلى فرنسا كان مستمتعاً بأنغام الغيتار القادمة من زاوية المطعم وبالجو الحميم وبالحديث مع مجموعة صغيرة من المعارف، وتلمّظ عندما بدأت النادلة بصفّ قطع الفطروالجزرعلى صحنه لكن ما إن جاء دور شريحة اللحم حتى اتسعت عيناه رعباً ونظر إلي طالباً النجدة كمن وجد في سريره أخطبوطاً حياً.

طلب صديقي من النادلة أن تستعيد اللحم غير المطبوخ تماماً لتطبخه حتى النضج التام فرفضَت فألحّ فأتى صاحب المطعم وفسّر لنا بلباقة “نحن لا نرفض طلباً لكن نكهة الفتيلة ستضيع هدراً إذا لم تؤكل saignante”. ترجمتُ الكلمة حرفياً لصديقي “فتيلة البقر تؤكل هنا دامية”، فصرخ “أمعقول ما يأكل هؤلاء ؟”

انتهى الأمر بنا أن توازعنا اللحم فصديقي يأكل الطرف الخارجي المشوي وأنا أضفت قلب الفتيلة “الدامي” إلى صحني لأني كنت قد تعوّدت على تذوّق اللحم غير المطبوخ تماماً.

كانت تخطر على بالي تلك الحادثة كلما التقيت بوافد مشرقي جديد إلى فرنسا. ومع علمي أنه سيتعرض لبعض الصدمات المطبخية وأن خلايا التذوق عنده ستجتاز حفنة من الامتحانات، كنت أصمت لأن التعميم صعب، فاكتشاف أي مطبخ جديد تجربة فرديّة في نهاية الأمر. وما أرويه هنا إن هو إلا محصّلة لتجربتي الفردية ولما رأيته وعشته من مشاهدات الأصدقاء. ولعل سنواتي الطويلة في فرنسا منحتني القدرة على استخلاص بعض الخطوط العامة في هذا المقال، لكني أتطلع متشوقاً إلى قراءة تجارب الآخرين في فرنسا وغيرها قريباً واكتشاف المزيد مما لم أصادفه.

إذاً كيف نفضل اللحم ؟

الرواية السائدة هي أن المشرقيين، وعلى الأرجح المغاربة أيضاً، يأنفون النيء من اللحم ولا يأكلون منه إلا ما طُبخ حتى النضج التام والشامل مثل الشرحات “المطفاية” و”الروستو” الذي يُسلق لساعاتٍ بعد تلفيحه حتى يتليّف. لكن الواقع مختلف يحدد فيه نوع اللحم المقدًّم وما يتوقعه الآكل ما ننفر منه وما نتقبله. فالصديق إياه الذي رفض حتى تذوق الفتيلة المشوية جزئياً لم يتمنع عن أكل الsteak tartare  بشهية واضحة بعد أيام قلائل. والـ steak tartare هو هبر بقري مفروم ناعماً بالسكين يبقى نيئاً ويُضاف إليه عند التقديم صفار بيضة نيء هو الآخر والبصل المفروم والقبار والملح والفلفل الأسود وربما الخردل والكتشاب وغيرها.

ستيك تارتار. المصدر ويكيبيديا

نحن أهل المشرق نثق بالغنم أكثر من ثقتنا بالبقر لكننا نأكل لحم البقر النيء إذا كان على شكل ستيك تارتار. ونأكل الهبرة النيئة والكبة النيئة وأكباد الغنم النيئة، لكن ما إن نرى لحماً مطبوخاً أو مشوياً فيه بقيّة من لون وردي نشمئز. بكل بساطة نحب اللحم في صحننا إما نيئاً تماماً أو ناضجاً حتى الاهتراء. في المقابل يكنّي الفرنسيون الشرحات المشوية حتى النضج بالنعل دلالة على قساوتها.

وهل يُعد التهام اللبن بمربى الفريز من دلائل الاندماج ؟

الصدمة هنا متبادلة، فالفرنسي، بل الأوربي الغربي عموماً، لن يفهم لم يملّح السوري أو اللبناني أو ‏الفلسطيني اللبن ولا كيف يستطيبون حموضة اللبن المطبوخ. أذكر الإحباط الذي شعرت به عندما فضّل ضيوفي الفرنسيون الكوسا المحشوة بدون اللبن الذي طبخته لساعة مع التحريك وكنت فخوراً بتماسكه وبقوامه. وفي مجموعتنا مطبخ غربة وردت مراتٍ نصائح عدم تقديم الشاكرية أو الكوسا باللبن إلى الضيوف الألمان أو الإنكليز أو الفرنسيين فهم لن يستسيغوا طعمها. وبالمقابل كم من مراتٍ سمعت فيها سوريين يعترفون أنهم حتى بعد عشرين أو ثلاثين سنة من الإقامة هنا في أوربا لم يستطيعوا الاعتياد على طعم اللبن مع الفواكه أو المنكهات كالفانيليا ؟ ويذكرون دهشتهم الأولى عندما رأوا اللبن في السوق يباع بعلب “قد الكشتبان” كطعام حلو المذاق. وبكل بساطة سيبقى مفهوم اللبن لدينا مختلفاً مهما تفرنسنا أو تأوربنا.

علب لبن “قد الكشتبان”. المصدر :

https://www.untrucparjour.org/2012/02/28/truc-n737-empiler-les-pots-de-yaourt-vides/

غزوات الأسواق

قدمت إلى فرنسا في فترةٍ كان فيها الكثير من المواد الغذائية نادراً في سورية بسبب الاعتماد على المنتج المحلي والعوائق أمام الاستيراد. كنتيجة لذلك كان الطلاب السوريون يصولون في السوبرماركت الفرنسية أو في السوق أسبوعية في الهواء الطلق كالغزاة ويعود كل منهم إلى غرفته بتشكيلات أكبر من سعة براده الصغير من علب سلطات التونة بالذرة والأجبان واللحوم المقددة والمملحة والسكاكر والعلكة والكولا وكأنه قادم على حرب. حتى الدكاكين الصغيرة (من النوع الذي يطلق عليه الفرنسيون اسم “العربي على الناصية” l’Arabe du coin) كانت صدمة حقيقية لنا إذ يتوافر فيها الكثير من الأغذية التي لم نكن قد سمعنا بها أو رأيناها. ومع انفتاح السوق السورية أمام الاستيراد وتنوع صناعات الأغذية الوطنية في التسعينيات وسنوات الألفين خفّت ظاهرة الانبهار تلك حسبما لاحظت لكنها لم تختفِ، ربما لأن الوفرة طالت المدن في سورية دون الأرياف ؟

لم يحن موعد العشاء بعد !

في مطعم الجامعة التي درست فيها في باريس كان الغداء يُقدم بدءاً من الساعة الحادية عشرة وخمس وأربعين دقيقة وكان العشاء يقدم من الساعة السادسة والنصف مساءً حتى الثامنة. كنت أعود بعده إلى غرفتي لأبدأ جولة طويلة من مراجعة الدروس وحل المسائل. في التاسعة ليلاً تستيقظ المعدة من جديد إذ حان وقت العشاء حسب ساعتها، ثم في العاشرة ليلاً تستغيث. والحل ؟ إما شطيرة مرتجلة مما تطاله يدي في البراد أو لوح من الشوكولا. وهكذا انتهى الأمر بي، كما بجميع مواطنيّ الذين اختلطت بهم في فرنسا، إلى أربع وجبات في اليوم طوال سنة الإقامة الأولى. ولو كنت في ألمانيا أو في بريطانيا لربما زادت الوجبات إلى خمس، فالعشاء في البلدين أبكر منه في فرنسا. “أمعقولٌ متى يأكل هؤلاء ؟”

سؤال : ما المشكلة في أن يرتفع عدد الوجبات إلى أربعة ؟ “شو فيها ؟”

جواب : “ما فيها شي”. لا مشكلة إذا رضي المرء أن ينبئه الميزان في آخر السنة أنه أصبح أثقل بستة كيلوغرامات.

يُتبع…

هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن المفاجآت التي تنتظر القادم من مطبخ إلى مطبخ، من منظومة غذائية ألِفها إلى منظومة جديدة. مثلاً، لم أكتب بعد كلمة عن وجبة الفطور، أو عن رائحة بعض الأجبان، أو عن تراتب تقديم الوجبة، أو عن….

إلى حلقة قادمة.

جميل فرح أبو داود. طباخ نادراً، إداري رديف ثانٍ في مجموعة “مطبخ غربة”

اقرأ/ي أيضاً:

المطبخ وأثره في الاندماج، ماذا أخذنا وماذا أعطينا؟! رأي يرصد حركة تبادل الثقافات عبر المطبخ

في دور الجَنْدَرَة وطبخ المُجَدَّرَة نقاشات مفتوحة وآراء حول أدوار الرجل والمرأة في المطبخ، وانعكاساتها في ضوء الاغتراب.

وصفة اقتصادية من المطبخ الألماني مع أخصائيي التوفير والطهي: كورت ماير وأوفيه غلينكا

ألمانيا: السجن المؤبد بحق أفغاني لقتله صديقته بسبب انفصالها عنه

سفارة إسرائيلية “افتراضية” في الخليج…متى سنرى السفارة الفعلية؟