in

كيف صارت الخيمة اليونانية جزءاً من حياتي! قصتي في مساعدة اللاجئين في اليونان

غياث الجندي

قبل ثلاث سنوات دفعني خبر عن مركب غرق في بحر إيجه للذهاب إلى اليونان والتطوع لمساعدة اللاجئين واللاجئات على شواطئه. كان قراراً سريعاً وحاسماً ولم يحتج الكثير من التخطيط ، فلم أستطع أن أبقى متفرجاً على المأساة الإنسانية. في اليوم التالي وصلت إلى جزيرة ليسفوس المقصد الرئيسي للباحثين عن الأمان الأوروبي!

مع وصولي الشاطئ رأيت أعداداً كبيرة من المتطوعين والمتطوعات ينتظرون وصول المراكب “البرتقالية”، الغالبية الساحقة من أوروبا ومن مختلف الأعمار. أول من رأيت زوجين هولنديين متقاعدين، ذهبا لقضاء عطلتهما في الجزيرة لكنهما قرّرا وقفها والتطوع لمساعدة اللاجئين. لم يكن هنالك تنظيم يضمّنا ولا مدراء ليخططوا ما يجب القيام به، كانت غريزة المساعدة وغريزة العطاء. ولم يكن هنالك ممولين لتغطية النفقات أيضاً، بل كنا نعتمد على مساعدة عائلاتنا وأصدقائنا للاستمرار.

يوماً رأيت مركباً يتقدم، وسمعت صراخاً ممتزجاً بالبكاء والضحك والزغاريد، لقد اقتربوا من برّ الأمان وهم على وشك الخروج من رعب البحر ومن رعب المجهول الذي ينتظرهم على الشواطئ الأوروبية. خلال دقائق كنت أتناول الأطفال من المركب لأمررهم للمتطوعين الواقفين على الشاطئ. لم يكن بإمكاني تخيّل اللحظات التي عاشوها حتى وصلوا هنا! كانت الصلوات تذهب إلى السماء مسرعة، الدموع تلتقي بمياه البحر، والخوف شريك الفرح!

تزايد عدد المراكب وتزايد عدد المتطوعين والمتطوعات، كنا ننزل مركباً بعد آخر إلى الأمان. في لحظات استراحة قليلة، كنت أنظر إلى المراكب القادمة فأحسّ بلدي سوريا، التي تركتها قبل سبعة عشر عاماً، تأتي برمتها إلي! كان إحساساً غريباً فنحن لسنا بمعزل عمّا كان يشعر به المهاجرون! كنا نبكي معهم، نضحك معهم، ونقلق معهم. يخبروننا عن أقاربهم الذين غرقوا، ولكنهم أصروا على المخاطرة ذاتها فما من سبيل آخر أمامهم. كنا نقرأ الألم بعيونهم وعيونهن، وفي آخر الليل نذهب إلى غرفنا لننام بجانب القصص التي سمعناها والابتسامات التي رأيناها. أصبحنا جميعاً جزءاً من المراكب ومن سترات النجاة المغشوشة التي حوّلت شواطئ الجزيرة لشواطئ برتقالية. وكم كانت كثيرة القصص التي سمعناها عن وحشية المهربين، الذين امتهنوا إذلال اللاجئين وسرقتهم، وإرغامهم على المخاطرة في أوقات البحر غير السعيدة.

هناك عرفت زينة، طفلة في التاسعة هربت مع أمها وأبيها من حلب. حملتها من المركب، وحاولت أن أعطيها لمتطوع آخر على الشاطئ فتمسكت بي وبدأت بالبكاء: “أرجوك لاتتركني عمو، أرجوك خليك معي، أنا خايفة من البحر ومن المي ومن البوليس”. هدّأتها ولم أتركها أبداً حتى تمكنت العائلة من الرحيل بعد أيام إلى آثينا ومن ثم إلى الحلم الألماني. كنت أزورها مرات يومياً وفي كل مرة تسألني: “هل سأعود إلى البحر؟ عمو أنا لا أحب البحر”. كان البحر مخلوقاً قاسياً مخيفاً، والأطفال والرجال والنساء الحوامل ينامون على الطرقات مبللين بمياهه وبالخوف الذي تجدد بعد وصولهم بقليل، حيث لا منظمات ترعاهم ولا أماكن تأويهم، ولو مؤقتاً، من برد الخريف اليوناني. لم يكن لدينا إلا محاولات لتأمين أغطية أو ملابس، أو الوقوف حائرين حتى يأتي الصباح ليركبوا الباخرة المتجهة لآثينا ومن ثم إلى حدود البلقان فأوروبا الغربية المقصد الأخير.

ياسر طفل في العاشرة، لم يعرف المدرسة يوماً ولا يتذكر أنه عاش في بيت واحد لأكثر من شهر. منذ كان في الثالثة بدأت قصته مع النزوح إلى إدلب وانتهت في خيمة على جزيرة ليسفوس. ما إن يراني حتى يقفز من الخيمة نحوي ليرى ماذا أحضرت له، فرغبته الأولى كانت أقلام ودفاتر. “أريد أن أتعلم كتابة أسمي” قال لي. علمته كتابة بعض الحروف واسمه باللاتينية. حين رأيه بعد ستة أشهر كان قد تعلم الإنكليزية من المتطوعين والمتطوعات! كان يعيش مع أمه وثلاثة أخوة في خيمة، أما والده فقد اعتقلته قوات النظام منذ أربع سنوات ولم يعد بعدها.

الآن وبعد ثلاثة سنوات، زادت الأوضاع سوءاً وانقلب المناخ السائد. انخفض عدد اللاجئين بعد الاتفاق الأوروبي- التركي في مارس/آذار 2016 والذي يقتضي “وقف المراكب الآتية عبر تركيا”، وتم إغلاق مايسمى خط البلقان الذي استخدمه اللاجئون للمرور إلى أوروبا. أما الذين يصلون إلى الجزر فينتظرهم الحبس في مخيمات مزدحمة تفتقر لأدنى مقومات العيش الانساني. وفي حالة السماح لبعض الحالات الطارئة بمغادرة الجزيرة فينتظرهم طريق صعب في آثينا لتأمين السكن والإقامة والمعالجة الصحية.

يوجد الآن ما يقارب ستين ألف لاجئ في اليونان من جنسيات مختلفة، يعيشون ظروفاً صعبة سواء في المخيمات أو في الأبنية المهجورة. عدد لا بأس به منهم ينتظر إعادة التوطين أو لمّ الشمل منذ 2016، ومازال ألم الانتظار متواصل، وغالبيتهم ينتظرون مقابلاتهم في اليونان، وقد تمتد فترة الانتظار إلى السنة والنصف.

أثناء تطوّعي تعرفت على عائلة هربت من جحيم البراميل المتفجرة، وصلوا الحدود اليونانية بعد إقفالها بيوم واحد وهنا بدأت المأساة. امرأة وأربعة أطفال، قُتل خامسهم بسقوط برميل والأب عالق في سجون النظام منذ ست سنوات. وجدت الأم نفسها للمرة الأولى أمام مسؤولية مخيفة، لا دخل ولا حماية، ولمدة شهرين في خيمة على الحدود مع الحشرات السامة والزواحف، ومن ثم في آثينا تحت خيمة في الميناء لتسعة أشهر معتمدة على التبرعات. “هيام” انتظرت مع أطفالها سنتين وثلاثة أشهر في خيمة باليونان، ومن ثم في بناية مهجورة بدون كهرباء وماء. بعد ذلك قامت المفوضية العليا لحقوق الانسان بتسفيرها الى السويد. خلال تلك الفترة لم يتعلم أولادها ولم يعد زوجها. من السويد كتبت: “صارت الخيمة اليونانية جزء من حياتي”.

لم يعد وصول مراكب المهربين إلى اليونان سهلاً، ولم تعد اليونان محطة انتقالية نحو “الأمان الأوروبي”، فهنالك وضع سياسي يخلق معوقات صارمة ضد وصول اللاجئين، ولا يُستثنى منهم من لديه حالات خاصة، فالجميع متساو في اليأس والألم. ولم يعد هنالك عدد كبير من المتطوعين والمتطوعات فقد ضيّقت الحكومة اليونانية على عملهم، وأضحت الاستمرارية المادية والنفسية أصعب وأصعب.

خاص أبواب

اقرأ/ي أيضاً:

اعتقال السباحة السورية “سارة مارديني” في اليونان بتهمة “إنقاذ البشر”

بعد إتمام الإتفاق مع إسبانيا واليونان… ألمانيا تتوجه للإتفاق مع دول أخرى لاستعادة اللاجئين

السماح للاجئين بالتنقل بحرية في اليونان بحكم من المحكمة العليا

وثائق لجوء ألمانية للبيع في اليونان وتركيا

نهائي بطولة أمريكا المفتوحة للتنس.. مزيج من المشاعر

بورتريه: مهاجرون في ألمانيا – لميس سيريس