in

“القصف حتى الطاعة” مشاهدات وانطباعات صحفية ألمانية عائدة من سوريا

بقايا بيت مهدم من حلب القديمة © Andrea Backhaus

تمكنت الصحفية الألمانية أندريا باكهاوس أخيراً من الحصول على فيزا إلى سوريا، وهو الأمر الذي ما كانت تتوقع حدوثه أبداً، وشكل لها ولصحيفة تسايت أون لاين حيث تعمل بعضاً من الارتياب، لاسيما أنها معروفة بمواقفها المتشددة جداً ضد النظام السوري.

إثر عودتها إلى ألمانيا نشرت باكهاوس مقالاً طويلاً في تسايت أون لاين، تروي فيه تجربتها في حلب ودمشق والغوطة، ومشاهداتها وانطباعاتها عن هذه الزيارة. وتنفرد أبواب هنا بتقديم ترجمة كاملة لهذا المقال:

القصف حتى الطاعة

سوريا تحت الأنقاض، لكن نظام الأسد، الواثق من انتصاره يسمح للصحفيين الغربيين بزيارتها مرة أخرى ليروا بأعينهم كيف عمّ السلام.. بينما أهوال الحرب في كل مكان. بقلم أندريا باكهاوس، حلب، دمشق، الغوطة

إنه منتصف النهار في أحد أيام نيسان أبريل الماضي، الأطفال يلهون في الساحة قبالة قلعة حلب، وتفوح رائحة الشاي في الهواء، وأحدهم يبيع غزل البنات في الطريق، بينما يدعو المؤذن بصوت أجش لصلاة الظهر. يكاد يكون ممكناً الاعتقاد بأن الحياة الطبيعية عادت إلى المدينة.

بمجرد أن تشق طريقك على الحصى المتربة المؤدية من الميدان إلى الشوارع الضيقة للمدينة القديمة يتبدد الجو الريفي بسرعة. المباني هنا في مواجهة بعضها البعض، لكن كثيراً منها ليس أكثر من واجهة مدمرة أو نصف سلم أو كومة من ركام السقف. وتحت الأنقاض، لا تزال الجثث مدفونة وقد يستغرق الأمر سنوات قبل إزالتها كلها.

لسنوات امتدت جبهة القتال بين القلعة وحلب القديمة مروراً بقلب المدينة؛ سيطرت قوات النظام على الجزء الغربي من المدينة بما فيها القلعة، بينما كان النصف الشرقي ومعه البلدة القديمة تحت سيطرة الفصائل المسلحة المعارضة للنظام، إلى ما قبل عيد الميلاد 2016 بقليل عندما هزمتها القوات الحكومية. واليوم، استعاد النظام السيطرة على المدينة بأكملها: الغرب؛ حيث يبدو كل شيء طبيعياً بما في ذلك المقاهي والمتاجر والشوارع التي تعج بالمارة، والشرق؛ حيث الشوارع مليئة بالركام وشظايا الحياة -المراتب والسترات الممزقة وفردات الأحذية المبعثرة- في كل مكان.

صور بشار الأسد في حلب الغربية © Andrea Backhaus

ثلاث شقيقات يتجولن أمام القلعة؛ تقول أكبرهن وهي مدرّسة في الثلاثين من عمرها، إن منزلهنّ قريب من مكان الجبهة وفي أثناء المعارك وبمجرد حلول الظلام كان عليهن البقاء في المنزل والاستماع للقذائف تنفجر في حيهم. الآن، هم مرةً أخرى “حرات في الخروج”.. تحاول أن تبتسم، ولكن تعابيرها تصبح خاوية. تضيف إنها كثيراً ما تتذكر حلب كما كانت في طفولتها: رائحة الهيل في شوارع الخانات الضيقة، التجار ينادون على بضاعتهم، همهمة الأصوات المسموعة عبر جدران حمام السوق. لم يتبق شيء. لقد دُمرت مدينتها، تاريخها. ومن المسؤول؟ تتوقّف للحظة.. تجيب وهي ترتجف “الجميع”.

لم يتقاتل المتمردون وقوات النظام بشراسةٍ مثلما فعلوا في حلب. ومنذ أن خرجت قوات بشار الأسد منتصرةً هنا، تقدمت في جميع أنحاء البلاد، وهزمت مناطق سيطرة الفصائل المسلحة واحدةً إثر الأخرى. إنها مسألة وقتٍ فقط قبل أن يسيطر الدكتاتور مرة أخرى على كل سوريا.

وهنا في حلب حيث استعاد سلطته بالفعل تراه يعمل جاهداً على إظهارها؛ الملصقات التي تحمل صور الرئيس عُلّقت في كل مكان، القلعة، المباني الحكومية، المدارس والمحلات التجارية. الصواري التي ترفع العلم السوري أُقيمت على طول طرق حلب الرئيسية والشرطة العسكرية تقوم بدوريات في المدينة.. لا أحد يستطيع أن ينسى من يملك مقاليد السلطة. تقدم حلب لمحةً عما يمكن أن يحدث في بقية سوريا حالما يستعيد الأسد سيطرته الكاملة. ما هي الخطوات التي يتخذها النظام في الأماكن التي ربحها في المعركة؟ كيف ستبدو سورية الجديدة تحت حكم الدكتاتور القديم؟

قد يبدو أن الأسد يعتبر نصره نهائياً وكافياً ليسمح للصحفيين الأجانب بدخول البلاد مرةً أخرى. ولكن في حقيقة الأمر فإن المراسلين القادمين إلى سوريا يُسمح لهم فقط بمشاهدة تلك الأجزاء من البلاد التي يرغب هو في إظهارها، كالمناطق التي تقع تحت سيطرته والتي ربما تكون قد دمرت إلى حدٍ كبير لكنها الآن هادئة ومليئة بالناس الذين لا يجرؤون على انتقاده، كما يرافقهم مراقبٌ دائم في جميع المقابلات، وبالتالي فإن الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات -حتى لو امتنعوا عن قول أي شيء مهين عن الأسد- إلا أنهم يفضلون عدم ذكر أسمائهم.

سماح الأسد للصحفيين بدخول البلاد هي أيضا مسألة تتعلق بالمال، فرغم مسؤوليته عن جزءٍ كبير من دمار بلاده، إلا أنه بحاجة إلى المال لإعادة الإعمار، والكثير من هذه الأموال يأتي من مانحين أجانب. هو بحاجة إلى صحافة إيجابية تظهر للقادة الأجانب أنه وإن لم يكن ضامناً للحرية، فهو على الأقل حصنٌ للاستقرار.

حلب الشرقية © Andrea Backhaus

كراهية للمعارضة

من برلين نطير إلى بيروت ثم بالسيارة إلى دمشق لإكمال الرحلة بعدها باتجاه حلب، توجب علينا الالتفاف لتجنب القتال المستمر بالقرب من حمص. يمكن هنا رؤية المطاعم المهجورة ومحطات الوقود المملوءة بثقوب الرصاص على جانبي الطريق. وقد أقيمت حواجز تفتيش عند مداخل ومخارج كل مدينة يطلب فيها الجنود الملولون رؤية أوراق ركاب السيارة.

ويمكن أيضاً رؤية الجنود على جانب الطريق ينتظرون توصيلةٍ إلى المنزل أو إلى المعركة التالية. نتحدث بإيجاز مع أحدهم، وهو شاب في طريقه إلى المنزل لزيارة عائلته في عطلة نهاية الأسبوع. انضم إلى الجيش قبل سبع سنوات عندما بدأت الحرب. ويقول إنه ورفاقه سعداء بأن الحرب تقترب من نهايتها. يتحدث عن الروس الذين يقودون وحدته، ثلاثون رجلًا، طوروا استراتيجية المقاتلين السوريين ليتابعوا هجماتهم على جيوب المتمردين الأخيرة. وبمجرد أن يُحسم القتال حول الغوطة يقول الجندي، سيتحول التركيز إلى “تطهير” مدينة درعا الجنوبية من “الإرهابيين”. ثم ستكون المعركة النهائية في إدلب.

دون حاجةٍ لدليل يصف أولئك المتمردين كإرهابيين، ولكن ليس فقط المقاتلين بل كذلك المدنيين الذين بقوا في مناطق سيطرتهم، هم أيضاً إرهابيون يجب القضاء عليهم. وإذا وضع يده على شخص من مناطق المعارضة، فإنه سيقتله في الحال.. يقول الجندي.

أحد أسواق حلب الشرقية © Andrea Backhaus

مثل هذه التعليقات هي نتاج بروباغاندا النظام، التي تسعى إلى مسح جميع ذكريات الانتفاضة ضد النظام الاستبدادي من الذاكرة الجمعية للناس. الرواية الرسمية هي أن النظام يحارب الإرهاب من أجل السلام العالمي، حتى لو كان الغرب لا يرى ذلك.

قبل الحرب، كانت حلب إحدى أهم المراكز الصناعية في البلاد، ضمت إضافةً إلى السنة والشيعة الأكراد والتركمان، وكذلك المسيحيين بنسبة 20%. ولمدة أربع سنوات ونصف ما بين صيف 2012 وديسمبر 2016، كانت ساحة معركة، يطلق المتمردون القذائف على النصف الغربي من المدينة، فيستجيب النظام بالقنابل على شرقي حلب ويحاصرها في محاولةٍ لتجويع المعارضة، في نهاية المطاف كانت الطائرات الروسية والسورية تطلق النار على المقاتلين والمدنيين على حد سواء، وتقصف المدارس والمباني السكنية والمستشفيات.

الصور والفيديوهات التي نشرها مراسلون وأطباء على قنوات التواصل الاجتماعي خلال القتال واجهت الجمهور الغربي بوحشية الحرب في سوريا. فجأةً بدا العنف المروّع واضحًا حتى في أوروبا البعيدة.

ديكتاتورية لعقود

سفك الدماء نفى الأجواء المفعمة بالأمل التي بدأت بها الانتفاضة. في عام 2011، عندما خرج شباب وشابات من أنحاء سوريا إلى الشوارع للتظاهر سلمياً من أجل الحرية وضد الديكتاتورية، بدا أن الأجيال تقود تحولاً كبيراً بعد أن عاش السوريون تحت حكم ديكتاتوري لعقود. فحزب البعث العربي الاشتراكي كان في السلطة منذ عام 1963، وتولى حافظ الأسد الحكم في انقلاب عام 1970، وبوفاته ورث الحكم ابنه بشار عام 2000. بدا بشار الأسد في وقت مبكر من عهده عازماً على التحرر، ولكنه سرعان ما عاد للقمع.

“اعتاد والدانا على الانصياع، لكننا جيل الشباب شعرنا بأننا محبوسين في قفص”، تقول مهندسة معمارية شابة من حلب على الهاتف قبل رحلتنا. عاشت تجربة الثورة وبقيت في شرق حلب حتى ديسمبر 2016 قبل أن تفر إلى تركيا، حيث تعيش الآن. “إذا أردت البقاء حياً في سوريا، عليك إما التعاون مع النظام أو إبقاء فمك مغلقاً”.

لم يعد الشباب السوريون يريدون قبول هذا الوضع. شاهدوا قوات الأمن تطلق النار على المتظاهرين، واختفى طلاب الجامعات في غرف تعذيب النظام، وسلم المقاتلون المعتدلون الذين كانوا يسيطرون على أحيائهم في نهاية المطاف الطريق للإسلاميين. وسرعان ما سحق النظام المظاهرات بفتك متزايد.. وتفكك البلد.

دمشق © Andrea Backhaus

مجبرون على الفرار مرة أخرى

لن يتمكن نشطاء المعارضة الذين فروا إلى الخارج من العودة طالما ظل نظام الأسد في السلطة، تقول المهندسة المعمارية، مضيفةً أن أسماءهم مدرجة في قوائم فروع الأمن وبالعودة، سيعرضون أنفسهم لخطر الاعتقال والابتزاز والتعذيب. تقول فاليري سزيبالا، رئيسة مشروع Siege Watch، وهي مجموعة تتابع الأوضاع في المناطق المحاصرة: “بعض النازحين تعرضوا لمثل هذا التهديد من قبل الميليشيات الموالية للنظام لدى عودتهم إلى شرق حلب، مما اضطرهم إلى الفرار من جديد”. وتقول إن النظام يفعل ما بوسعه لمنع العديد من النازحين من العودة. وتضيف إن أولئك الذين يستثمرون اليوم في سوريا يجب أن يعرفوا أنهم يدعمون نظام الأسد ويدعمون “التهجير القسري المنهجي”.

تتم مكافأة مؤيدي النظام بمنحهم عقود تعهدات البناء أو يسمح لهم بالحصول على حصة في مشاريع أكبر. بينما المنتقدون لا يستفيدون من الوضع، وغالبا لا يحصلون على أي شيء. وفي حلب تقوم طبقة جديدة من رجال الأعمال الموالين للنظام والمستفيدين من الحرب بإزاحة الطبقة الوسطى القديمة جانباً.

في دمشق.. يبدو أن لا أحد يهتم بالمعاناة في الغوطة الشرقية

يقع مقر الأسد في دمشق عاصمة النظام ومنها يطل القصر الرئاسي على المدينة. أما حي باب توما وهو الحي المسيحي الذي يشتهر بالحياة الليلية فيعج بالحياة، يزدحم بالنساء، بعضهن يرتدين التنانير القصيرة، وبعضهن يرتدين الحجاب، يمشين جنباً إلى جنب أمام البارات مع رجالٍ بشعر مسرّح. كثيرون مقتنعون بأن الحكومة سوف تستعيد السيطرة على البلد بأسره في غضون بضعة أسابيع وسيعود كل شيء إلى ما كان عليه.

مخيمات نازحي الغوطة © Andrea Backhaus

لكن الحرب لم تنته بعد. هذا واضح جداً على بعد 10 كيلومترات فقط من باب توما في الغوطة الشرقية. حتى وقت قريب كانت دوما، أكبر مدينة في المنطقة، لا تزال في أيدي المتمردين. ولكن مباشرةً بعد رحلتنا إلى سوريا، تعرضت المدينة لهجوم بالأسلحة الكيميائية، وهو الحدث الذي أدى إلى الضربات الجوية الأمريكية الأخيرة ضد أهداف النظام. منذ ذلك الحين، سيطر نظام الأسد على كل الغوطة الشرقية.

وبعبور السيارة عبر مناطق الغوطة الشرقية التي احتلها النظام حديثا تنكشف قرى قُصفت بأكملها إلى أجزاء صغيرة، سقوف متهدمة مبانٍ سكنية منهارة، وسيارات منقلبة، وأعمدة هاتفية تم اقتلاعها من الأرض. لم يُسمح لنا بمغادرة سيارتنا، لكن من خلال النوافذ شاهدنا الجنود السوريين يحمّلون على دراجاتهم البخارية، القليل المتبقي من الممتلكات التي خلفها الموتى والنازحون. قليل من السكان الذين كانوا مختبئين من القنابل يجلسون على الطرق في كراسي بلاستيكية مغبرة.

ذهب الجميع، طُردوا. تم نقل النساء والأطفال والشيوخ إلى مخيمات تابعة للنظام حيث يتم استجوابهم حول آرائهم السياسية وإجبارهم على قسم الولاء للرئيس. أولئك الذين يرفضون الترحيل إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام يتم نقلهم إلى شمال سوريا إلى أماكن مثل إدلب. كواحدة من آخر الجيوب المتبقية التي يسيطر عليها المتمردون، المنطقة تحت قصف مستمر من قبل طائرات النظام. في هذه الأثناء يتم تجنيد معظم الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35  سنة في جيش النظام وإرسالهم إلى الجبهة.

حقيقة الأسد

في دمشق، يبدو أن قلةً قليلة مهتمة بمعاناة أولئك في الغوطة الشرقية. يقول الناس هنا أنه عندما سيطر النظام على القرى الأولى، تم توزيع الحلوى في شوارع دمشق وهنأ الأصدقاء بعضهم. وكثيراً ما يسمع المرء أن أولئك الذين عاشوا في مناطق سيطرة المتمردين عليهم ألا يلوموا إلا أنفسهم. يقول رجل يعيش في الولايات المتحدة ويزور دمشق حالياً إن الرئيس السوري أثبت قوته وقدرته على السيطرة على كل شيء. لم يكن هناك ثورة، كما يقول، كانت مجرد مؤامرة لتدمير سوريا بدأت من الخارج: من السعودية، قطر، تركيا، الولايات المتحدة – الجميع، حقاً! والرئيس لم يلعب أي دور على الإطلاق؟ يهز الرجل رأسه: كان فقط يدافع عن السوريين. رجلٌ آخر يهاجم الإعلام الغربي ويتهمه بالسعي إلى تقسيم البلاد عبر النقد المستمر للأسد، ويصرخ “اكتبي الحقيقة”.

وهي الرسالة التي سمعتها أيضاً في وزارة الإعلام. على المراسلين من الخارج أن يتقدموا بطلب للوزارة للحصول على جميع أنواع التصاريح لكل اجتماع، كل رحلة وكل مدينة قمت بزيارتها. يبدو أن البيروقراطية حية وبصحة جيدة. ويجب على الصحفيين التوقيع على وثيقة تتعهد بتقديم تقرير “بموضوعية وصدق”. وتشير الوثيقة إلى أنه يمكن معاقبة من ينتهكون ذلك التعهد، ولكن بدون تفاصيل.

من سيعيد بناء حلب؟

أربعة ملايين شخص عاشوا في حلب قبل الحرب، سكان المدينة اليوم أقل من نصف هذا العدد. العديد من سكان غرب حلب الذين كانوا يوماً ما رجال أعمال وأصحاب مصانع مزدهرة سافروا إلى الخارج أو انتقلوا إلى أجزاء أخرى من البلاد، بينما فر العديد من سكان الجزء الشرقي من المدينة هرباً من القتال في وقت مبكر أو انتقلوا إلى النصف الغربي، وهم الآن يعودون ببطء إلى منازلهم، يصلحون ما تبقى من بيوتهم، ويفتحون أكشاكاً أو عربات خضروات، ويزيلون الأنقاض من الشوارع. إنه وجود شاق كما هو الحال بالنسبة لمعظم الناس في سوريا. ينقطع التيار الكهربائي في كثير من الأحيان والمولدات توفر الحد الأدنى من الراحة، في المساء معظم الشوارع مظلمة وتقريباً لا يمكن القيام بأي شيء، والليرة السوري بلا قيمة تقريباً.

ومع ذلك، يتحدث الكثيرون عن الحرب كما لو كانوا مجرد متفرجين؛ أشخاص مثل علاء سيد، وهو محام يمول بشكل خاص إعادة بناء إحدى بوابات المدينة القديمة السبعة. يريد أن يثبت أن حلب يمكن أن تعود جميلةً كما كانت ذات يوم. أو ربما أكثر جمالاً مما كانت عليه قبل الأزمة. ثم هناك رجلان كانا يعملان في مطبعة في المدينة القديمة، فرا إلى غرب حلب هربًا من العنف، لكنهم عادا الآن ويحاولان إعادة إحياء أعمالهم مرة أخرى. كان لديهما 20 موظفًا، سافر بعضهم وتم تجنيد الآخرين في الجيش ولم يتبق سواهما. يقولان إنهما عندما عادا إلى المتجر قبل خمسة أشهر، كانت جميع آلاتهم قد سرقت. والآن، باستخدام مطبعة جديدة بدأا مرةً أخرى في إنتاج مجموعات صغيرة من التقاويم والدفاتر. المباني المحيطة بهما فارغة وقليلون يتجولون في المدينة القديمة المدمرة. “لكن على أحد ما أن يأخذ الخطوة الأولى”، كما يقولان: “انتهت الأزمة والحمد لله”.

حلب الشرقية © Andrea Backhaus

قمع غير محتمل

في حلب، يمكن الشعور بالكراهية التي مزقت المجتمع السوري. القليلون فقط تحدثوا عن السوريين الذين فروا إلى الخارج. وإن تحدثوا عنهم، فإنما في سياق القصة التي قالها رئيسهم: إن هؤلاء الذين غادروا حلب فعلوا ذلك بسبب الإرهابيين. يمتنعون عن قول ولو كلمة واحدة عن القنابل التي سقطت على المدينة من قبل النظام. الرئيس، كما يقول أحد الرجال وهو يفتح كشكه قرب المسجد الأموي المتضرر، كفل عودة السلام إلى حلب، وأولئك الذين لا يستطيعون رؤية ذلك يمكنهم البقاء في الخارج، أمثالهم غير مرغوب بهم هنا.

فادي أحمد إسماعيل هو أحد الأشخاص الذين كلفهم النظام بالتغلب على الكراهية. وهو يعيش في شقة في حي راقٍ في غرب حلب، حيث المنازل غير متضررة، والشوارع واسعة، والساحات مصانة جيداً. إسماعيل هو ممثل وزارة المصالحة الوطنية السورية في حلب التي تأسست خلال الحرب. هدف الوزارة هو إعادة دمج أولئك الذين قاتلوا ضد الحكومة في المجتمع السوري.

اسماعيل يستثني فكرة أن السوريين في حلب تظاهروا طلباً للحرية والديمقراطية. يقول ببلاغة إن جميع المتظاهرين كانوا مدفوعين وممولين من قبل قوى أجنبية، ومن يطلبون الرحمة كما يقول، سيحصلون عليها. ويصر على أن أولئك الذين قاتلوا ضد النظام، أو انتقدوه وغادروا سوريا بشكل غير قانوني، عليهم أن يتواصلوا فقط مع وزارة المصالحة ويتعهدوا بعدم التمرد مرة أخرى ضد الحكومة. يقول إسماعيل إنه من حيث المبدأ، يمكن للجميع العودة، وسيكون الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للبعض، لكنه يرفض الخوض في التفاصيل.

عندما سُئل عما إذا كان يدرك أن الأشخاص الذين فروا من مناطق سيطرة المعارضة قلقون بشأن الانتقام الحكومي في حال عودتهم، يقول إسماعيل “لا” ويصر على أنها دعاية وأن الحكومة السورية لن تعاقب أحداً.

قتل ما يقارب نصف مليون شخص في الحرب حتى الآن، وفر عدة ملايين آخرين من العنف بحثاً عن مأوى آمن في أماكن أخرى في سوريا أو خارجها. ثم هناك من بقوا ولكنهم هربوا فقط في أفكارهم. ربما يكون من الضروري القيام بذلك إذا كنت تريد الاستمرار في العيش في سوريا: التراجع إلى عالمك الخاص واحتمال ما لا يطاق.

قلائل فقط من سكان غرب حلب لم يجازفوا نحو النصف الشرقي من المدينة ولو لمرة واحدة منذ انتهاء العنف، رافضين السير على بعد أمتار قليلة تفصل منازلهم المحمية عن الدمار على الجانب الآخر. تقف امرأة في منتصف العمر شبه مختبئة أمام مدخل مبناها غير بعيد عن المكان الذي كانت عليه الجبهة. اليوم استثناء.. فهي بالكاد تغادر شقتها، وتقول إنها تريد إبقاء حلب في ذاكرتها كما كانت قبل الحرب، لهذا السبب تقضي معظم وقتها في غرفة معيشتها وهي تشاهد التلفزيون وتقنع نفسها بأن كل شيء كان مجرد فيلم رعب.

حلب © Andrea Backhaus

ترجمة. سعاد عباس

هذا المقال منشور في تسايت أون لاين، للاطلاع على النص الأصلي اضغط هنا

 

اقرأ أيضاً

بين ثورتين : واحدة مهزومة وأخرى مستحيلة

زوّار “البديل لأجل ألمانيا” في سوريا.. فما الذي صمّ آذانهم عن أصوات الطائرات في الغوطة

الأسد شبه سقوط حلب بنزول الوحي وإيران شبهته بالفتوحات الإسلامية

التلغراف: صورة لصبي سوري جريح تعكس مجرد جزء من أهوال حلب

الحركات الإسلامية الفلسطينية تبارك الرد السوري على القصف الإسرائيلي وتشيد به

بلاد اللجوء ليست الجنة… لسنا واهمون لكنّ الموت ذلاً ليس أهون من الرصاص، ولهذا اخترنا ألمانيا