in

لن أتعلم يوماً..

زين صالح*
لن أتعلم يوماً.. غضاريفي تعظّمت عند باب الشادر الأسود، قرب جموع المتلفّعات بالأسود والمناديل البيضاء المطرزة. يوم كسرتُ الساعة “الأورينت” الثمينة دون قصد. شهر آب الموسوم بالقيظ والخسارة، حين لفّ محمد أفراحنا معه.. هناك في جيوب الثوب الأبيض الذي لا جيوب له. سقطت براءتي مع كسرة الحشوة التجميلية الهاربة من فمه تاركةً فجوةً سحيقةً لا قرار لها.

لن أتعلم يوماً، عظامي ازرقّت والتفّت بذعرٍ بالغٍ حول قلبي اليافع المتعب.. يوم استدنت خمسمئة ليرة من مدير المدرسة وسافرت أعد الخطوط البيضاء المتتالية تجاه الضيعة، حيث انكسر جسري وظهري وغاب دليلي ونجمي قبل أن أريه جعبة ألواني وأتسمّر أمامه منتظراً رده وحبه ورضاه.. وتُركت أرزخُ تحت أثقال الفقد وأبكي ليالٍ عسيرات قادمات.

لن أتعلم يوماً.. جبلتُ حيث ينام الحمام على أعمدة الكهرباء، وترشقُ الساعة الوقت رشقاً وملامة، حيث تطلع الشمس لتدثّر كل راحلٍ وتكشف بقسط أشعتها فداحة فعائل الجهل والشرور. أظفار يديّ الغضّتين خشنت تحت وابل الكره والرّجس والوَجَس، كبرتُ وصغرت واستعمِلت وكهلت وأُتلِفت حتى انتهيت وخدّرت السماء وجهي وأطرافي حتى هِمْت على وجهي وقُلِعت راضياً أو مجبراً لم أعد أذكر.

لن أتعلم يوماً، صدمت ووقفت وتبعت طرق السلوى واكتشفت سبلاً للصحبة، واستكنتُ فابتليت وخرجت وزجرت حيّاً لا يحبني لكنه يرمي لي فتاتاً أقتات عليها فتسدّ جوعي وتعكّزُ قلبي وتعيد عليّ تلاوة ما كتب في أوراقي الممزّعة منها والمسلوبة.

لن أتعلم يوماً، خبرتُ أصوات المبعدين عبر الهاتف، وصرت أعرف أيّتها التنهيدة وأيّتها البكاءة وكيف يلتوي وقع الكلام ويقصر حياءً ويخجل ويحزن ثم ينطفئ. خبرت زوايا كاميرات السكايب الناجحة وأوقات الاتصال المناسبة وغير المناسبة وكيف تتزحزح الصور وتذوب وتفنى.. عندما ينقطع الخط، فألوذ بسترتي وأهمس: دثروني.. دثروني، وآخذ نفساً عميقاً يصل لب الأرض وأزفر بعدها كل الألم والودّ والغضب والسكنى.

لن أتعلّم يوماً، اللغاتَ المزخرفة والكلمات بوقعها الرنان والمصطلحات المحفورة في الألسنة بكل ما تحمله من تاريخٍ وعرفٍ وسننٍ وفرادة.. هي محط إعجاب ومحلّ للاهتمام وحلٌّ لألغازٍ وموطئ راحة، لكنها ليست “همس” و “نجوى” و “سلوى” و “سلام” و “ود” و “حنين”. لا تحمل في انحناءاتها قصة وريدة، والطبّوحة، والعو، وبيت الجسر الأبيض، لا تتلون بكعك التمر ومعمول الجوز، والمقروطة، ليس لوقعها بردٌ وسلامٌ ونسيمٌ يجرّ أخبار السكينة في بيت مساكن برزة.. لا تعرف أيّ بنتٍ من بنات الجيران فرّت مع اللحام الأسمر، وأيّ باب من أبواب السماء يفتح عندما يسمع زفرات أمي وهي تنشر الغسيل وتقع أرضاً ثم تقف وتلفّ الكون تحت إبطها وتمشي بحزمٍ، وتندم وتتحسر لكنها لا تريد أن يتغيّر شيء.

لن أتعلم يوماً، قد أتخلى عن أرغفة خبز الأفران الساخن وأستبدله بصنفٍ آخر يشبه ما شاهدته في الأفلام، قد أعتاد الطرقات النظيفة والمرتبة وإشارات المرور المحترمة هنا، قد أشتري ثياباً جديدة جيدة النوعية، وأسرّح شعري بطريقة أخرى، قد أجرّ حقيبتي الأصلية على بلاط المطارات النظيفة، قد أتحدث بألسنة أخرى وأطبخ أطباقاً مختلفة وأذوق أشياءً جديدة.. لكن جسدي لا يتمطى براحته هنا، يدي لا تمتد على طولها، وقلبي لا يرى.. لا يرى.

لن أتعلم يوماً.. لن أتعلّم أبداً.

زين صالح. كاتب وصحفي سوري مقيم في ألمانيا

إقرأ/ي أيضاً:

آنية الورد التي لا تعرف أنها انكسرت
سلمان، أخي
الفنان السوري ناصر حسين.. كـأنْ لا شيء آخر في الوجود...
أنوثة الشعر ج2- المصائر الشعرية
عندما لا يكفى الحب! Wenn Liebe nicht reicht

نيمار في باريس… مسلسل ضياع الهيبة لأغلى صفقة بالتاريخ

زاوية حديث سوري: المثليّـون و أزنافور وأنا…