in

هواجس حول المرض

د. نجاة عبد الصمد. طبيبة وروائية سورية مقيمة في ألمانيا

في هذا الباب المفتوح لن يؤذينا التسليم أن لا حلول سحريةٍ لأحداث الحياة الجسيمة حين تأتي، إنما معرفتنا بها قد تغير الكثير في مصائرنا وبالذات في الفترة الأكثر حرجاً، أي أول وقوعها.

تأتي نوبة المرض الأولى، أي مرض، فجائية وصادمة. لا أحد ممن يتعرضون لحادث أو يصابون مثلاً بالداء السكري الشائع (والمتوقع وراثياً في بعض العائلات)، أو ارتفاع الضغط أو نوبة القلب، يكون مستعداً لما حلّ به دون سابق إنذار، وحتى لو خطر في باله فإنه يطرده من ذهنه كما يهش بيده ذبابة دبقةً تحوم حول رأسه ويمضي في أعماله ومشاريعه.

وحين يأتي المرض حقاً لا يريد المريض أن يصدق ما وقع له، بل على العكس تماماً يسعى إلى الإنكار، وإلى اعتبار أن هذا الحدث المألوف في يوميات الحياة موجودٌ حقاً، ولكنه سيغزو حياة أشخاص آخرين بعيدين، وأنه لن يصيبنا نحن ولن يصيب أحبتنا كذلك! 

قالها صديقٌ شابٌ: “تلقيتُ نوبتي القلبية الأولى كصدمةٍ شديدة المرار، كخيانة الصديق أو الشريك. كيف فعلها بي جسدي، جسدي صديقي الأقرب، الذي يحملني وأحمله وأطمئن إليه على أنه وعاء روحي: كيف فعلها وخانني! شريكٌ وخان، صديقٌ وخان، دون تنبيه، دون إنذار، دون اعتذارٍ منمق ولا غير منمق عن فعلٍ وضيعٍ كالخيانة، هكذا ببساطة دون ندمٍ أو خجلٍ أو حتى أسف. هل سأمحو أو سأغفر له خيانته؟..”

كذلك تبدأ حياةٌ جديدة بعد نوبة المرض الأولى، ناسيةً كل وئامٍ كان قبلها، تغدو علاقة المريض بجسده علاقةً إجبارية مع خائن، علاقة جديدة شاقة ومختلة لأنها تفتقد إلى عنصر الأمان القديم: الثقة! 

لن تعود هذه الثقة بسهولة، وقد لا تعود أبداً، أو تعود بعد وقتٍ ليس بالقصير، وتعود منقوصةً غير قادرةٍ على التمام، وقد تنتهي المهلة وأنت (مكانك راوح).. سوف يصبح ألم الرأس احتمال ورمٍ في الرأس، وألم الصدر نوبة قلب جديدة وألم القدم نذير شلل وهكذا، حتى وإن كان لا أكثر من صداعٍ عابرٍ أو تشنج عضلي يعبر لثوانٍ ويرحل.

وحين يجول ذهن المريض بتوتر وسرعة بحثاً عن طبيب، يبحث عنه ليسرّ إليه بحِمل شكواه الثقيل في لقائه الأول به، ويأمل منه أن يكون أكثر وفاء وثقةً من جسده الذي يصاحبه منذ عشرين، ثلاثين، سبعين سنة؛ بقدر سنين عمره التي مرّت.

ليس على المريض أن يحمل همّ الطبيب، إنها مهنته التي تدرب عليها، هو عمله اليومي أن يشخص الأمراض ويعالجها، وأن يتقن التعامل مع خصوصية كل مريض، على المريض فقط فقط أن يحسن اختيار طبيبه.

يعود المريض إلى السؤال: لماذا أنا؟ أنا لم أصب من قبل بهذا، كنت معافىً كل الوقت كالحصان.. متناسياً أيضاً أنّ لكل ما يأتي هناك دوماً مرةٌ أولى غير مسبوقة! 

أمرٌ وحيد قد يعين الإنسان الذي كان منذ وقتٍ قصيرٍ يهنأ بعافيته: أن يكون قد درّب نفسه من قبل على تلقّي الصدمات ومواجهتها بواقعية، أن يدرك أنها طبيعة الحياة التي لن تحمي أحدنا من جميع أمراضها، فأمراضها لا تحصى، وعلينا أن نستوعب أنّ لكل فردٍ منا حصته منها وأن ندرب النفس بعد قدومها على استعادة الثقة بجسدنا كشرطٍ لازم لإكمال درب الحياة.

الحذر والوعي والسعي إلى المعرفة من مصادر موثوقة تأخذنا ببطء لكن بثقة إلى نمط الحياة السليم في طبيعة الغذاء والحركة وطاقة الروح الإيجابية، كل هذا لن يقينا من المرض لكنه سيجعله أقل حدةً أو أذى حين يأتي، ويجعلنا أكثر استعداداً لقدومه ثم ترويضه والتعايش معه وقبوله كما نتقبل أخيراً حقيقة موت أحبتنا ونتآلف مع غيابهم مثل تآلفنا مع الفقر والعوز والخسارات والانكسارات، ونتابع حياتنا معه كما عليها أن تكون.

إقرأ/ي أيضاً:

ألماني للغاية.. “توبيش دويتش”

بالفيديو: اكتشاف العضو الأكبر بجسم الإنسان.. قد يعطي الأمل بعلاج المرض الأعند

850 ألف دولار لإعادة البصر: الشركات الطبية مستمرة باستغلال المرضى

بطولة ويمبلدون… بين نادال وفيدرر “أنا أعشق الفيدال”

الحكومة الألمانية تنجح أخيراً في ترحيل أحد قادة الشبكات الإجرامية العربية إلى بلاده