in ,

ألماني للغاية.. “توبيش دويتش”

د. نجاة عبد الصمد*

يهمي الصباح هادئاً بغيمه القليل على قاعة الدرس، تدخل “روزا”، المعلمة الألمانية الشابة، تكتب لتلاميذها بخطٍّ جميلٍ وتعليميٍّ حتى في شكل ارتسامه على السبورة: “توبيش دويتش”، ثم تلتفت إلى تلاميذها: “بماذا توحي لكم هذه العبارة”؟

قد تكون روزا العملية والحازمة مثالاً حيّا على “توبيش دويتش” (النمط أو العقلية الألمانية)، فهي التي تفتح لتلاميذها أقفال اللغة من مفرداتها إلى قواعدها إلى بنيانها، بينما تلاميذها هؤلاء كبار السن وحالمون كلّ على طريقته وظرفه، جميعهم هاجروا إلى بلدها من بلادٍ كثيرةٍ تغرق في حروبها، وعليهم أن يتعلّموا لغة البلد المضيف إن لم يكن برغبتهم فلأن عليهم أن يفعلوا، وأن يجيبوا الآن على السؤال المكتوب أمامهم على السبورة واضحاً تماماً وسهلاً وممتنعاً في آن معاً. بماذا سيجيبون؟ وكيف لهم أن يصيغوا أجوبتهم بهذه اللغة الجديدة والعنيدة، بينما بعضهم لم يبرأ بعد من خشيته من أن ترميه هذه الأرض الجديدة خارجها إن هو نطق حقاً بما يفكر ولم يكن جوابه مطابقاً لأهوائها؟

أجابت كيتي (من الصين): “تعني لي ثقة الإنسان بصناعة بلاده”. وقالت رندة (من سوريا): “هي نظافة الشوارع والحدائق والغابات والبحيرات والأبنية والأسواق، هي ثقتي بنظافة الأكل في المطاعم”، وأجاب خلدون (من سوريا) بدوره: “النمط الألمانيّ في ذهني يشبهك يا روزا: أنت شابة وحلوة، لا تضعين أي ماكياج وثيابك عادية جداً وتلبسين في رجليك شحاطة قديمة، ولا أراكِ أقلّ جمالاً من أختي التي كانت تجلس ساعتين أمام المرآة قبل أن تذهب إلى عملها ممرضة في المشفى”.

سارعت رغد إلى الجواب بانفعالٍ كما لو أنها تلقي قصيدة حماسية: “توبيش دويتش تعني لي التكنولوجيا، التطور، الحرية”. رغد من سوريا، كانت هناك في المرحلة الإعدادية منذ خمس سنوات، ثم تنقّلت بين مخيمات عديدة بلا مدارس قبل أن تصل إلى ألمانيا منذ عامين. عمرها الآن عشرون عاماً، السبعة الأخيرة منها بلا مدارس، بلا قراءات، بلا إضافاتٍ إلى قاموسها الفكريّ ولا فرص متاحة لها للغوص في دلالات المفردات الفخمة مثل (تكنولوجيا، تطور، حرية) أو لإدراجها في ترتيبها المنطقي حيث الحرية إحدى أهم شروط التطور التكنولوجي أو سواه! لكنّ رغد نطقت بها، واستطاعتْ أن ترسم على وجه المعلمة ابتسامةً فخورة.

قال جور (من الهند): “أظنها تعني: الشعب الودود!”، واعترضت أمل سريعاً: لا أظنهم ودودين، تسأل أحدا في الشارع هل تسمح وتدلّني على هذا العنوان؟ يلاحظ أنك في أزمة ولا يكترث، ولو طلبتَ من عشرة مارين في الطريق أن يساعدوك، هذا إذا ملكت لغتهم لتخاطبهم بها، سيجيبك واحد من هؤلاء العشرة بينما سيهز الآخرون أكتافهم متذمرين لأنك عطّلت سيرهم السريع، ويجيبونك بعبارة لا أثر فيها للتعاطف أو حتى للتفهم: “ليس لدي أدنى فكرة عمّ تسأل”!

تابعت أمل (سوريا): “لكن ألمانيا تعني لي أشياء أخرى، هي انضباط الإنسان، شغفه بالعمل، إيمانه بنفسه وببلده، الشعب العمليّ البعيد عن الرومانسية”. تدخلت المعلمة: “وهل تعتقدين أنّ الشعب الألماني كله شغوف بعمله”! ردتْ أمل: “بمجرد ما يصبح إتقان العمل عادةً راسخة فهذا يكفي لأعتبر أنّ هذا الصانع شغوفٌ حتى وإن لم يكن”!

مروانة، الصبية السمراء من أفغانستان، ركنتْ إلى حلمها وموّجتْ قاعة الصف كلها بالصدى الطالع من رأسها: “للأسف يا روزا: ألمانيا تعني لي عدم كفايتي من الضوء. سماء ألمانيا غائمة وكئيبة. حين يأتي من السماء ضوء أشعر أنني عدت إلى أفغانستان”.

وقالت آلينا (من كوبا): “ألمانيا في ذهني هي شبكة طرق (أوتوبان) لا حصر لها، طرق سريعة ومتشابكة كما شرايين الجسد البشري”.

كانت روزا عوّدتهم قسراً على ألا يتكلم (التلميذ) إلا في دوره، والدور الآن لمحمد، 66عاماً، سياسيٌّ فلسطيني مخضرم، لغتُه وأفكاره ونقاشه ونطقُه الآسر جعلوه أجملَ الناطقين باللغة العربية. كان هذا في حياته التي نضجت بين نزوحٍ قديمٍ من فلسطين إلى سوريا عام 1967، وحديثٍ إلى المانيا منذ 3 سنين. حاول محمد الكلام، تأتأ، وكالعادة لم يستطع أن يبني جملة واحدة. ثلاث سنين وهو يفشل في تعلم اللغة، منحته الحكومة الألمانية ضعف عدد الساعات المخصصة للمهاجرين لاجتياز المرحلة الإلزامية من اللغة وبدوره لم يوفر جهداً في حضور الدروس أو الإصغاء والكتابة والإعادة ومحاولة النطق. كل ما أنجزه هو فهمٌ ضبابيّ لموضوع الحديث الذي يسمعه بالألمانية.

ولأن محمد لن يرتاح إلا بعد أن يقول ما أخذ يتزاحم في رأسه باللغة العربية؛ طلب من نمر، جاره في المقعد أن يترجم له: “ألمانيا تعني لي بلد الضمان الاجتماعي المكين، البلد الذي حسم أمره بألا يترك بين مواطنٍ وآخر سببا للتقاتل وأحالهم جميعاً إلى مرجعية القانون، أنا أحترم هذا البلد الذي يحترم المسنين والمعوقين، ولن يخذل كرامتي الشخصية في الجزء الأرذل من عمري”. بلغته البسيطة أوصل نمر الفكرة إلى روزا، إلا أنّ ترجمته ظلّتْ بعيدة عن دفق الجزالة في عربية محمد. توقف نمر بعدها عن الكلام لثوانٍ ثم خفض صوته وتابع: ” أما أنا، نمر، فسأخبرك عن نفسي أن توبيش دويتش تعني لي للوهلة الأولى شيئاً يشبه المياه المعدنية، نعم، في ألمانيا عرفت لأول مرة أن هناك شيء اسمه مياه معدنية يمكن أن يشربها الإنسان، في بلدي الذي أريد نسيانه لم أسمع بوجود ماء غازيّ، ماء له طعم، ما يزال يصعب عليّ التسليم أن للماء طعم”!

زاغت نظرات روزا، وقبل أن تستقرّ على حال، قال عليّ الأفغانيّ: “النمط الألماني في ذهني هو هؤلاء الذين أراهم كل مساء يُنزّهون كلابهم، يعيشون مع كلب، يصادقون الكلب، يصاحبون الكلب بدلاً عن صحبة أخوتهم البشر. يا إلهي كيف يمكن أن يعيش الإنسان في غرفة واحدة مع كلب؟!”.

اغبرّ وجه روزا بينما بدا عليّ سعيداً بأن يقول رأيه في شأنٍ ما، أي شأن! كان يتكلم منساباً وعفوياً ومنفعلاً، وهو الرجل الثلاثيني الذي وصل إلى ألمانيا أميّاً وأباً لثلاثة أطفال، وانتظم على مقعدٍ دراسيّ في مدرسةٍ لأول مرة في حياته مع أجانب من كل أصقاع الأرض بينما أولاده يتعلمون الألمانية مع الأطفال الألمان في الحضانة.

علا صوت رفائيل من المكسيك، وأعاد إلى روزا ضحكتها الطفلة: “ولماذا التعقيد؟! ألمانيا تعني لي: بيرة، بطاطا، لحم الخنزير الشهيّ الحاضر في كل وجبة. وأيضاً؛ ألمانيا في ذهني هي صناعة كرة القدم، هندستها كمعادلة رياضية، حين أشاهد الفريق الألماني أنشدّ إليه، يتعب عقلي وأتعب في التركيز ولا أستمتع، ويفوز الفريق الألماني وأفخر به لكنني لا أفرح، النمط الألماني ليس ممتعاً. نحن في المكسيك نستمتع بلعبة الفوتبول كما نتنفس أو نرقص أو نأكل فاهيتا”.

قالت ديبورا من نيجيريا: “ألمانيا هي البلد الذي يرى لون بشرتي ويمنعه القانون من أن يعاملني بسببها بعنصرية أو بتمييز”. اعترضت ليسلي: “ولكنني من كوبا، وأنا سمراء لا سوداء، وكنت حتى أمس أظن ألمانيا كذلك لكنني أمس بالذات كنت في القهوة وطلبت من النادلة شيئا فأحالتني دون أن أفهم لماذا إلى زميلتها، كان شيء ما في صوتها وتعابير وجهها يقول من غير أن تنطق: لن أطيق خدمتك لأنك أجنبية، أو بالتحديد: لأنك لست ألمانية!”

تدخل حاتم في غير دوره: “نعم، ليسلي على حق. كنت أظن أن بلدي إيران معقد جداً، لكن ألمانيا معقدة أيضاً، خذي مثلا قضية فرز الزبالة إلى زجاج وورق وبيو ومختلط ولا أدري ماذا بعد.. دزينة من حاويات خضراء، بنية، صفراء وسوداء لن تكفيني سنة كاملة لحفظ ألوانها”

وقالت ليزا من أوكرانيا: “أوووه، أوراق كثيرة، بيروقراطية. سأشيخ هنا قبل أن أكمل أوراقي القانونية”!

ستتوالى الدروس في القاعة وينتهي هذا الكورس ويأتي سواه، ويُجاب على السؤال نفسه بألف جواب، وفي لحظة ما ستخرج المعلمة نفسها عن غير قصد، من الـ”توبيش دويتش” الراسخ ولا تعرف كيف تعود إليها؛ أو ربما يعيد “توبيش دويتش” تعريف نفسه، فالتأثير في المحصلة متبادل، على اختلاف درجاته.

د. نجاة عبد الصمد

 

 

 

 

د. نجاة عبد الصمد* – طبيبة سورية مقيمة في ألمانيا

 

 

 

اقرأ أيضاً:

هل يمكن أن تصبح ألمانيّاً؟ … أسئلة حول واقع الاندماج في المجتمع الألماني

الاندماج والتعايش الثقافي في ألمانيا.. وجهة نظر

اختبار اللغة هو مدخلك الأول للانضمام للجامعة… وهنا ما تحتاج لمعرفته للنجاح

النسبة العظمى من اللاجئين الأميين لم يتمكنوا من اجتياز اختبار اللغة الألمانية

اللغة الفرنسية تُعلن غيرتها من هيمنة اللغة الإنكليزية

وجهة نظر: قضية حارس بن لادن الشخصي، هل هي تقويض لدولة القانون؟

بورتريه: مهاجرون في ألمانيا – المصور الفلسطيني محمد بدارنة