in

الشاب الطباخ.. من المدينة الجامعية إلى برلين

خالد ابراهيم

لطالما كنت الطباخ الأمهر بين شباب عائلتي، هم قلة طبعاً كما أسلفت في مقالي السابق، ولذلك لا مجال لي لأفخر بهذا الشأن، ولكن تفوقي برز في المدينة الجامعية.. هناك حيث الجوع الشبابي لكل شيء.

هناك حيث المحظوظ فعلاً هو من تقع في هواه صبية حلوة وطبخاتها أو طبخات أمها حلوة أيضاً. ولكن باعتباري يتيم الأم ومدلل نساء العائلة كما ذكرت سابقاً، وسمين أيضاً، وبالكاد أنجح في الجامعة، ففي الحقيقة لم أكن “جذاباً ولا سيكسي” كفاية لأنال حب صبية من أولئك ولا لأستهوي أياً منهنّ. أو لنقل أنني كنت أفتقد للكاريزما اللازمة، وفي الحقيقة أيضاً كان ذلك مؤلماً في مرحلة ما ولكنني تجاوزته دون أن أنتبه.. واعتمدت على نفسي في عدة أشياء تعويضية ومنها الطبخ.

تجربة البيض والبطاطا المسلوقة عشتوها جميعاً بلا شك، وطالما نسب الملح والكمون والزيت مثالية فالوجبة ستكون سعيدة، وتكفي رشة فلفل أسود على وجهها لجعلها طبقاً رئيسياً في وليمة غرفتنا في المدينة الجامعية. مسحة دبس بندورة مع النعنع والشطة وزيت الزيتون على رغيف خبز محمص من فرنٍ ما تستطيع منح الليالي الدراسية مسحةً من الرومانسية والزهد. طحينة وسكر، زيت وزعتر، جظ مظ، والمعكرونة دائماً وأبداً..

ولكن تشجيع الرفاق والفراغ العاطفي المديد دفعاني للأمام، وبدأت أتفنن في تزيين صحون الحمص والفول ثم جاءت القفزة الجريئة جداً حين اضطررت لإعداد أول طبق فتة في حياتي، بمناسبة أنني نجحت أخيراً بمادة “القانون الإداري 2” وكنت قد رسبت فيها ست مرات متتالية وتسببت بتأخير تخرجي. المهم دعوت سبعاً من الزملاء المشوربين لأكل الفتة بسمنة في غرفتي الطلابية الصغيرة، عشق أجيال من السوريات والسوريين، نوستالجيا تجمع لوحدها الآن سوريي الداخل والخارج، وبصراحة بعد نزوحي الأول من سوريا إلى لبنان أحبطني كثيراً أن الفتة اللبنانية مختلفة جداً عن فتتنا، لكن الإحباط ازداد حين وجدت فتة أشقائنا تكتسح أيضاً المنفى الألماني، ما عدا مطعمين أو ثلاثة في برلين.

حسناً بالعودة إلى الفتة الأولى في حياتي.. كانت نجاح المبتدئين، لأنني وفي محاولة لرفع أسهمي قليلاً لدى الزميلات اندفعت بثقة لأوجه دعوةً لزملائي من الجنسين هذه المرة في حديقة المدينة، ولكنني.. فشلت، وحافظت على التوصيف المرافق لإسمي.. “خلودة شو ظريف، طيوب كتير إي”

لم أيأس.. الشباب الجائع العائد من الكلية يتوقع طبخةً ما مني، أنا الكسول الرابض في غرفته وحيداً في انتظار أخبار الأساتذة والدكاترة التي تفاوتت ما بين الشتائم والسخرية والغضب غالباً والاستغراب في حالات خاصة جداً، استغراب من قبيل “الأستاذ الفلاني جيد.. عن جد” أو “تخيل الدكتور فلان الفلاني سخر من المادة كذا في قانون الأحوال الشخصية” أو “المعيد فلان ما بيهمو حدا”..

مقابل المعلومات والملخصات وقصص أخرى ليس هذا المكان المناسب للكلام عنها، كان علي فقط أن أطبخ، وجمهوري هذا سهل الإرضاء، “شوربة العدس” عرض لا يمكن لأحد رفضه، “المجدرة” لا يعلى عليها، أما “المطبق” فهو أكلة ملوكية، كل هذا على “سخانة” صغيرة تهريب قد تستغرق أبسط طبخة عليها عدة ساعات. بينما السلطة هي مبالغة لا لزوم لها أمام صحن الخس والبصل الأخضر والمخللات المشكلة.

الشخص الوحيد صعب الإرضاء في تلك المجموعة كان “أنا” فنكهات طبخات الأمهات الكثيرات في حياتي كانت تطاردني كلعنة. أمضيت سنوات الجامعة وأنا أكدح بكل ما في هذه الكلمة من معنى، حتى وصلت إلى استكانتي الشخصية لحقيقة أن لي لمسات سحرية قادرة على عزل ما ورثته من طعوم، والاستمتاع بحقّ بالنكهات التي اكتشفتها بعرق جبيني، ومن أمثلتي على ذلك:

الملوخية، باللحم حصراً لا بالدجاج، مع سرين صغيرين للتغطية على القدرة المحدودة لجيوبنا نحن الطلبة: ظرف ماجي مذاب في الماء المغلي يضاف إلى الملوخية ونصف أوقية اللحم (أو أوقية كاملة في أول الشهر) وبعد قليهما معاً وتقليبهما في زيت دوار الشمس بدل السمنة، وبرش ليمونة وحيدة في الدقائق الأخيرة للاستواء قبل إضافة ملح الليمون الذي كان شهيراً وحاضراً على موائدنا.

احتفالاتنا بالدجاج كانت تنغصها زناخة غير محتملة لقطع الدجاج الرخيص الذي نشتريه قبل أن يفسد بقليل وغالباً الجوانح، ولتفادي الرائحة في أي طبخة.. صرت أشوي الجوانح أولاً بالفرن الكهربائي الصغير الذي هربه زميلنا أشرف إلى غرفته بالسر عن إدارة المبنى. أشويها بدون أي إضافات، دون غسيل، دون حتى ملح، دجاجة مُتَخيلة مع رشة زيت دوار الشمس أو بدونها في الفرن حتى تقرمش رغم أن ذلك قد يستغرق وقتاً لا بأس به بسبب انقطاع الكهرباء الطبيعي أو غير الطبيعي والناجم عن الكونتاكتات المستمرة بسبب ضعف الكهرباء، ثم أطبخ معها ما أشاء وطبعاً في المقابل أشرف حاضر دائم على ولائم دجاجاتنا على قلتها. أما سر الفاصوليا البيضاء.. رشة فلفل أبيض مع سنة ثوم وبصلة وفقط.

وأعجبت بنفسي “الطباخ”، وبدأ الآخرون أيضاً يعجبون بي، وتجاوزت جرأتي جوعى الوحدة الجامعية حيث أقيم، ولاحقاً زملائي وزميلاتي في العمل، بل أيضاً تجرأت بعد نزوحي إلى لبنان على الطبخ في بعض المناسبات التي جمعت عشرات الأشخاص. ولأول مرة صار عندي “كاريزما” هكذا قالت فتاة لأخرى وهما تأكلان قرص الكبة الذي صنعته.. “هالشب ما في منو محامي وطباخ وعندو كاريزما”.. سمعتها بأذني تقول ذلك.

هل تذكرون مسلسلات وأفلام الويستيرن، فيها دوماً بار، وفي كل بار يوجد دوماً باب مروحة يفتح بالاتجاهين بالدفع دون حاجة لبذل أي جهد ولا تحريك عضلة إضافية، هكذا.. صنعت لذاكرة ذائقتي الغذائية باب مروحة أدخل بثقة مطابخ خالاتي وعماتي وأعود بدفعةٍ صغيرة إلى مطبخي ولا نوستالجيا ولا خيبة ولا ذكرى لطعمٍ أفضل أو أكثر اشتهاءً. وبدون أن أنتبه أو أتقصد، باب المروحة هذا منحني ثقةً أكبر بالنفس بعيداً عن شؤون المطبخ حتى، فها أنا أتجول بين دواخلي ولواعجي بلا عوائق تذكر.. وربما لهذا أكتب لكم وتقرأونني الآن.

لكن نزوحي الثاني إلى ألمانيا هز ثقتي المطبخية قليلاً.. لماذا؟ لأنني وجدت هنا الكثيرين مثلي، شبابٌ تطوروا من البيض المسلوق إلى الكبة بطريقتي أو بغيرها، بباب البار الويستيرن أو بدونه، أزواج يتفاخرون بصور طبخاتهم. شبان يتبادلون وصفات الطعام. مهندس وطباخ، أستاذ وطباخ، كاتب وطباخ.. لم أعد “ما في مني” وأحسست بالكاريزما تسيح كالزبدة في مقلاة، وتحمر وعلى وشك الاحتراق. 

أستطيع طبعاً أن أتفهم أن هؤلاء الشبان بعيداً عن وجود المرأة الأم/الأخت/الزوجة/الكنة التي تجهز السفرة وتنظفها، قد وجدوا أنفسهم مضطرين لارتكاب كل ما كانوا يلقونه على كواهل أولئك النسوة، ولكن هذا التباهي المغاير لصورة الشرقي هو ما فاجأني، وجعل القيمة العليا لشجاعتي ولامبالاتي أمام استخفاف الآخرين بي بسبب قيامي بالمهام النسائية أمراً عاماً لا تمايز فيه.

أصبحت مجموعات الطبخ على السوشيال ميديا، جميعها تعجّ بالذكور. فغادرتها.

اقرأ/ي أيضاً:

عن الدبس بطحينة وشياطين أخرى

مطبخ من غربتي.. من مونتريال.. “قوت القلب خبزة ولبنة”

أمي وأمها.. المكدوس وأنا

برلين: حفل توقيع “الدليل القانوني للمقيمين في ألمانيا” للمحامي جلال أمين

إجراء أول تجربة على البشر للقاح محتمل ضد فيروس كورونا