in

زاوية حديث سوري: قاتل مواهب الشعوب

يكتبها بطرس المعري*

كنا نمضي أشهر الصيف صغاراً في بلدتنا في لعب كرة القدم أو الورق (الكوتشينة). وكان لنا هناك صديق يكبرنا بقليل يردد حينما يرانا نلعب بالورق جملته المعتادة: “لعب الورق يقتل مواهب الشعوب”. كنا حينها في سن المراهقة ولم نكن نعي تماماً كلام صديقنا هذا!

بعد فترة قصيرة من دخولنا الفضاء الأزرق (الفيسبوك)، تذكرنا جملة صديقنا الظريف هذه فكتبنا على غرارها منشوراً قصيراً يقول: “الفيسبوك يقتل مواهب الشعوب”، ويبدو أننا لم نكن نجانب الحقيقة بالرغم من أنه لم يكن منتشراً حينها كما هو اليوم. وكما في لعبة الورق، عدنا إلى إضاعة الوقت في “لعبة” تحط من لياقة الجسم بفعل الجلوس لساعات أحياناً، وتفصلنا بشكل من الأشكال عما يجري من حولنا، كما لا تزيد من معارفنا الكثير وبالطبع تلهينا عن تنمية مواهبنا أو ممارسة هواياتنا المفيد منها.

ويمكننا أن نقول إن كثيراً منا قد بلغ حد الإدمان على الدخول إلى صفحاته ومتابعة أخبار أصدقائه الحقيقيين والافتراضيين على حد سواء، كذلك متابعة الأحداث السياسية في البلاد وخارجها. نشر وتعليق، مشاهدة أو “لايك”… وحتى هذا الأخير قد أصبح مع التطور “الفيسبوكي” متعدد الأوجه، عادي أو على شكل قلب أحمر، وهذا من شدة حبنا للمنشور، أو وجه ضاحك أو غاضب أو مذهول. غوص في تفاصيل الحياة: فلان يزور أخاه وفلانة سعيدة لأنها قد طبخت “شيخ المحشي” وأخرى أخذت “سيلفي” مع الأصدقاء في المقهى… وفلان قد توفي زوج خالته فنعاه. وكان يلزم علينا في مثل هذه الحالة الأخيرة أن نقوم بواجب العزاء.

ولا شك أن هذا الفضاء قد سمح لنا كمغتربين أو مهجّرين، بتتبع ما يجري في بلادنا خلال هذه السنوات الأليمة بأدق تفاصيله، عن طريق ما ينشره من هم على الأرض أنفسهم، حتى نسي أغلبنا عادة أخذ الخبر أو المعلومة عن طريق وسائل الإعلام التقليدية من قنوات وصحف ومواقع إخبارية. كما سمح بالمقابل لأهل البلاد بتتبع أخبار من هاجر منهم.

إذن لا مفر من دخول هذا العالم، وأمام هذا الكم من المعلومات والصفحات والمجموعات المفيدة وغير المفيدة، الجدية والمبتذلة، يغرق من لديه فائض من الوقت أو من لا يقيم للوقت وزناً. فمتابعة الأخبار الفنية والاجتماعية والقصص والطرف المكتوبة والفيديوهات القصيرة عمل للأسف يسلينا أكثر من ممارسة الرياضة أو مطالعة كتاب أو متابعة برنامج وثائقي أو تعلم أحد أنواع الفنون التي يمكننا ممارستنا في المنازل من دون تكلفة تذكر أو حتى الاهتمام بترتيب غرفتنا… فهل ابتكروا لنا الفيسبوك لقتل وقتنا؟ لا هي بالطبع ليست المؤامرة، بل هو الميل للكسل وتعميق لتقاليد راسخة في الهروب إلى الأمور السهلة ذات النفع الآني.

نتذكر أخيراً منشوراً قديماً لأحد طلابنا يقول فيه: “أملّ من الفيسبوك فأُغلق الموبايل، لكني بعد دقائق أملّ أيضاً فأعود إلى الموبايل وأفتح الفيسبوك”. يبدو صاحب المنشور ظريفاً أيضاً، لكن منشوره يستدعي في الحقيقة الشفقة أو بالأحرى الخوف… أي فراغ نعيشه.

* فنان وكاتب سوري مقيم في ألمانيا

 

اقرأ/ي أيضاً للكاتب:

زاوية حديث سوري: الطلاب العرب ودروس الثقافة الجنسية في ألمانيا

زاوية حديث سوري: ما بين أبو عصام وأبو نابليون

زاوية حديث سوري: وحشا الهالوين على بابي

معرض رحلة انتماء 2 .. خطوة أقرب إلى المشهد الثقافي والفني والاقتصادي في برلين

ألمانيا هولندا… انتصار لوف على الجميع