in

بسكليتة كورس 83

اللوحة للفنان شادي أبو سعدة

حسام قلعه جي* أهدتني سيدة ألمانية “بسكليتة” أو “مسكليتة”، قالت أنها لجدتها المرحومة والتي ستكون مسرورةً جداً لو علمت أن لاجئاً سيستخدمها.

شكرتُ السيدة، وقرأتُ الفاتحة على روح جدتها، وحينما سألتني عما قلته أجبتها بأنه وعدٌ صغير لجدتها، على أن أحافظ على مبادئها في قيادة الدراجات.

التقطتُ بعض الصور وأنا على الدراجة بوضعيات مختلفة قرب مركز الإيواء، فككتُ إطاراتها أمام أولاد الحارة، وضعتُ “للجنزير” شحماً، نفخت “الدواليب”، ثم أسندتها على جدارٍ مكتوب عليه بالطبشور عبارة “آه يا زمن”، وأخيراً قطعتُ شريط الفرامل، فأنا أستخدم رجليّ عندما أريد التوقف.. أحبُّ منذ الصغر صوت “الشحاطة البلاستيكية” وهي تشحط على الأرض.

الدراجة جاهزة الآن لأول جولة في المدينة، تجولتُ في السوق كأول جولة لي “ببسكليتي” القديمة، لم أشعر بالإثارة أثناء ركوب الدراجة، هناك في أسواق دمشق تستمتع بشكل أكبر عندما تسرع بين الناس وتكاد تصطدم بهم ثم تنقذك “شحاطتك”، أما هنا فيجب أن تسير ضمن مسار معين، هناك تجد سيارة فتمسكها بيديك “المقشبتين”، وترفع رجليك لتقوداك أينما ذهبت، تطلقُ “زمامير” من فمك وتقول: (أوعى اللبن، أوعى الزيت).. هنا لا تستطيع ذلك.

هناك تنتظر عودة البنات من مدارسهن وأنت تقف تحت المطر بدراجتك “الكورس” الصينية، أمام آخرين يملكون سيارات مرسيدس سوداء مخيفة، تدخن ربع سيجارة نسيها أبوك عندما تهاوى كجدار متعب مساءً في منفضة السجائر، وترى البنت التي تحبها خارجةً من باب المدرسة، فترتعد، كل ما فيك يرتجف، قلبك، وشعر جسدك، وشفتاك الجافتان من البرد.

تحلم بالبنت التي تحبها وترمقها من بعيد وهي عائدة إلى منزلها تتمايل كحمامة. تنزل عن الدراجة التي بالكاد تطالها قدماك وتمشي خلفها، وهي تثرثر مع صديقتها وتنظر إليك بين الحين والآخر، وعندما تصل إلى باب دارها وتبتسم لك بخجل، تركب الدراجة وتطلق العنان لساقيك تأخذانك في المدينة، تصبح خارج المدينة والزمن والخوف، تجنُّ وأنت تمر بين أجساد الناس بعيونهم الساهمة في السوق، تختفي كل فزّاعات الرعب والنفي فجأة، الباعة الجوالون، المخبرون المتنكرون بأزياء مضحكة، كتبة التقارير من الدراويش، عربات الكتب القديمة ذات الوجهة الواحدة، العسكر ببدلاتهم المموهة، تجار الأسواق والبشر والأحلام، الذين يبيعون كل شيء بنور الله، وتصبح وحيداً خارج حدود المدينة القحباء، التي تعرض دمى الأولاد متدليةً من رقابها فوق الدكاكين.

تقود دراجتك على “دولابٍ” واحد، وتتحول الدراجة إلى فرسٍ حقيقي تؤمن ببطولتك، فتزين الدراجة بأول حرفٍ من اسمك واسمها بشرائط شعر ملونة، في اليوم التالي تستيقظ في الصباح، ولديك كل القوة المناسبة لكي تعرض عليها الذهاب معك بجولة حول العالم. تركب خلفك على دراجتك الملونة، وتبدأ قدماك تدوسان، لا تشعر بالألم أبداً وأنت تنسلّ بها بين السيارات المسرعة، وهي تضغط بيديها الصغيرتين حول زنار بنطالك ذي اللون الباهت.

لا تسمع من هذا العالم إلا صوت ضحكتها وجرس “البسكليت” الذي تضغطه باستمرار، ثم تشير إلى شعرها لتفك جديلتها، وتتركه كسجادة منشورة على شرفة في المساءات الحزينة، تنادي وتقول بصوت كرنين الذهب: (أوعى اللبن، أوعى الزيت، أوعى العسل)، وأنفك يتحسس كسنجابٍ بري رائحة صابون الغار من شعرها يتسلل عبر جدران المدينة الرطبة.

تنتشي بهذا التوافق الجمالي بين حواسك، فترمي “شحاطتك” على الأرض التي تدور كالدولاب، تناولك نصف سندويشة مربى التين، فترميها في فمك بلقمة واحدة، وتصنع بالوناً من الحب في خدك، تدوس بقدمين حافيتين وتمتلئ بضحك حبيبتك، ودراجتك التي لا تتوقف.

أهديت الدراجة للاجئٍ صغير السن، إذ لم يعد بمقدوري النظر إلى الخلف، في المرآة الصغيرة المبتلة بمطرٍ خفيفٍ سقط للتو.

حسام قلعه جي* كاتب من سوريا

 

اقرأ أيضاً

قطة ليلة الزفاف وأنا

ذلك العقاب… هذه اللعنة

عبود سعيد: احتمالات

الحنين لسوريا الوطن، أم الحنين لوطنٍ مشتهى؟

مبادرة في البرلمان الألماني لإنهاء حظر الحشيش يدعمها نواب اليسار وعدة أحزاب أخرى

للقادمين الجدد: انطلاقة موقع جديد في فرانكفورت يساعدك في البحث عن عمل