in

ذلك العقاب… هذه اللعنة

العمل للفنانة رؤيا عيسى

مها حسن . روائية من سوريا
كانت أصابعي ترتجف من البرد، حيث أترك النافذة مفتوحةً، وأنا أعمل. أغلقتُ النافذة، وأحضرت شالاً لففته حول عنقي، ورحت أدسّ أصابعي بين ثناياه، لأحصل سريعاً على الدفء. نظرت إلى رؤوس أنامل يديّ، وأنا أنفخ عليها، فوجدتني أنزلق من مكاني وزماني، لأعود إلى سنوات قديمة.

كانت أصابعي ترتجف أيضاً من برد الصباح، ولا أعرف السبب، الذي جعلني أتأخر على دوام المدرسة، التي لا تبعد كثيراً عن البيت في ذلك اليوم، هل كنتُ ضعيفة التركيز؟ هل كان خطأ أمي التي لم توقظني؟ لا أعرف تماماً. لكنني كنت طالبةً متفوقةً، ومعروفةً لدى معلّمتي فدوى، التي كانت تفضّلني على زميلاتي، وتبقيني معها في الفرصة، حيث تخرج البنات للعب، بينما أشاركها في تصحيح الوظائف وأوراق الامتحان. كانت تثق بي وتراجع سريعاً، العلامات الحمراء التي أضعها إلى جوار كل جواب، لتقوم هي باستخراج النتيجة النهائية، وتثبيتها على ورقة الامتحان.

في ذلك الصباح، دخلتُ الصف متأخرةً، فوجدت معلّمةً بديلة. أوقفتني بوجهها المتجهم، وراحت توبّخني لتأخري. لم أتأخر لأكثر من دقائق، اعتدنا عليها نحن بنات الصف الخامس الابتدائي. وقفتُ خاضعةً، أسمع التوبيخ، إلى أن طلبت مني أن أمدّ يدي لأتلقى ضربة العصا. شعرت بالصدمة، ونظرت إلى رفيقاتي كأنني أستنجد بهن. لكن لم يكن من مفر. وجه المعلّمة “نزهة” ينزّ بالغضب، وهي تهدد، أي تأخّر في مدّ إحدى اليدين، سيعرضني لضربة إضافية. مددت يدي باكيةً، قبل أن أُضرب. كانت يدي باردة بشدة، وجاءتني الضربة كلسعة كهرباء. بكيتُ أكثر، من الألم والصدمة والمهانة، وأنا أتجه صوب مقعدي. ثمّ تتالى وصول بعض الطالبات المتأخرات، وتعرضن جميعهن لعصا المعلمة البديلة.

منذ اليوم الأول لاستلامها صفّنا، قررت “نزهة” أن تربينا بطريقتها، لتضمن الطاعة والخضوع لاحقاً. الظلم الذي شعرت به يومها رافقني طويلاً، كانت تلك أول ضربةٍ موجعة على يدي الباردة.

في المرحلة الإعدادية، عرفت نوعاً أشد من العقاب. لأكتشف الدلال الذي كنا نحظى به، نحن طالبات المرحلة الابتدائية، حيث كان لدينا معلّمة واحدة لجميع المواد، عدا المواد الترفيهية كالرسم والرياضة، والتي كانت غالباً تُلغى، لتتحول إلى حصص نتلقى فيها المواد الأساسية من معلمتنا الأثيرة، الوحيدة، التي تعرفنا بدقة، وقلما تعاقبنا. خاصة فدوى، التي كانت تحاول أحياناً استعمال العصا، ثم تضحك، وتتراجع عن الضرب، ما إن تمد إحدانا يدها خائفة.

في الإعدادية كثرت المعلمات، معلمة لكل مادة: الرياضيات، اللغة العربية والانكليزية، الفيزياء والكيمياء، العلوم، التاريخ والجغرافية، التربية الدينية، التربية الوطنية، والمادة التي قلبت مفهوم التعلّم والدراسة في رأسي: التربية العسكرية.

كانت صباح أول مدربة فتوة تدخل حياتي المدرسية. كنت أعتقد أنها ستعاملني بطريقة أفضل، لأنني ابنة حارتها. كنا نعيش في نفس الحارة الشعبية الفقيرة، التي لا توجد فيها مدرسة إعدادية. اعتدتُ أن أذهب إلى مدرسة ( النيل)، التي تأتي إليها بنات الأحياء الراقية، من شارع النيل والشهباء والموكامبو.

لدخول صباح الصف هيبةً مختلفةً. كانت قلوبنا ترتجف خوفاً، لمجرد سماع صوتها القوي. لا تحتاج لاستعمال الميكرفون في تحية العلم الصباحية، وهي تضبط هذا العدد الهائل من البنات، مكررةً ( استارح ـ استاعد)، كما اعتدنا سماع الكلمتين تتكرران بالتتالي، مع حركة أقدامنا المناسبة لكل نداء.

لم أتعرض لعقاب من صباح، لكنني خفتُ، وأنا أرى عروبة تبكي من الألم، حيث زحفت في باحة المدرسة، وتمزق بنطالها من منطقة الركبة، ونزفت بعض الدم. لم أرَ عروبة يوماً مكسورةً هكذا. تلك الصبية التي كانت تتعالى على بنات الصف، لأنها تسكن في (فيلا)، ذات باب حديدي ضخم، بعيداً عن أي جيران يسببون الصخب والإزعاج.

صارت نساء الحارة تُوجهن اللوم لصباح، وتثرثر أمام أمي الجارات القريبات لعائلتها، بينما أحلم أنا بالتقرب منها عبرهنّ، تجنباً لعقابٍ، ترتجف ضلوعي بمجرد تخيّله.

في المرحلة الثانوية، ما عادت تفاجئني مدربة الفتوة، فقد اعتدت على صباح، ولكن صدمتي كانت من “ثناء” الطالبة المظلية، التي كان لها سلطة على البنات والمعلّمات، بل وعلى الآذن وزوجته. كانت ثناء هي الأكثر بطشاً.

كان يحق لها ركل باب الصف، أثناء الحصة المدرسية، لتدخل علينا متجاهلةً معلمة اللغة العربية، ضعيفة الشخصية، والتي كانت تهاب ثناء، فتطلب منا النهوض وترديد الشعار: أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة. أهدافنا: وحدةـ حريةـ اشتراكية.

سرى الدفء في أصابعي، نهضت مجدداً لفتح النافذة، ممتنةً لهذا البرد، الذي أعاد لي سنوات العقاب المجانية، التي كنا نتعرض لها نحن الطلاب والطالبات، دون ذنب واضحٍ، سوى إخضاعنا وإذلالنا.

أقول لنفسي الآن، وقد سقطت سوريا في خراب كبير: هل تدفع البلاد كلها اليوم، لعنة أولئك الأشخاص؟ هل ذلك العقاب الطويل آنذاك، قوبل عبر لعنة تسقط اليوم، وفي كل لحظةٍ على تلك البلاد؟

وما ذنبنا نحن السوريين، لنعيش كل هذا العقاب؟ منذ معلمات المدرسة البديلات، وحتى مدربات الفتوة، مروراً بالطالبات المظليات، ليأتي بعدها رجال من أنحاء العالم، يضربوننا، ويقتلوننا، ويعطونا الدروس في الخضوع، والطاعة العمياء!

اقرأ أيضاً:

كيف تكتب نصاً لافتاً

الوجه السعيد للمنفى

خوفٌ مؤنث على هامش الحرب والمنفى

شيطنات الساسة الخبثاء

إنقاذ أكثر من 350 مهاجراً في البحر المتوسط