in ,

الائتلاف الحاكم في ألمانيا، بداية النهاية وأسباب الزعزعة

جاءت نتائج الانتخابات الألمانية للبرلمان الأوروبي في 25 أيار )مايو( 2019 ، كمفاجأة سياسية لا يمكن اعتبارها إلا أنها صاحبة وقع تغييري لقواعد اللعبة السياسية، وانعكاس لتغير المزاج العام في البلاد. خسر الائتلاف الحاكم منذ عام 2005 أصواته لصالح حزب الخضر و حزب البديل لألمانيا اليميني على الترتيب، ولصالح الحزب الليبرالي وأحزاب المعارضة الأخرى بدرجة أقل.

مصطفى قره حمد، ماجستير دراسات سياسية – جامعة زيغن ألمانيا

جاءت نتائج الانتخابات الألمانية للبرلمان الأوروبي في 25 أيار (مايو) 2019، كمفاجأة سياسية لا يمكن اعتبارها إلا أنها صاحبة وقع تغييري لقواعد اللعبة السياسية، وانعكاس لتغير المزاج العام في البلاد. خسر الائتلاف الحاكم منذ عام 2005 أصواته لصالح حزب الخضر و حزب البديل لألمانيا اليميني على الترتيب، ولصالح الحزب الليبرالي وأحزاب المعارضة الأخرى بدرجة أقل. 

يتناول هذا المقال أسباب التغيير المفاجئ في وضع الائتلاف وسيتبعه مشاركات أخرى حول تبعات هذا التغير، وما يمكن أن يعني ذلك للجاليات العربية المهاجرة في ألمانيا. 

اللجوء والأمن، ظاهرياً

ليس بخفي على المراقب للوضع العام في ألمانيا، أو على المقيم فيها المتحدث مع أبنائها، أن هنالك حالة من عدم الرضا بدأت تتصاعد تدريجياً منذ أوائل عام 2016. فتحت ألمانيا أبوابها لأعداد من المهاجرين القادمين من عدة مناطق نزاع وعدم استقرار حول العالم، أهمها الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. استحوذ اللاجئ السوري موقعاً مركزياً في النقاش الأوروبي كونه صاحب أحقية في اللجوء ضمن التعريفات التي يتبناها الاتحاد للاجئ “الجيد” واللاجئ الاقتصادي الغير مرحب به. غرقت البلاد المتصدرة أوروبياً في الاقتصاد، بنقاش عاطفي حول صحة الموقف الألماني القيادي في أوروبا. 

بعد أحداث العنف في احتفالات رأس السنة في كولون، وهجمات باريس الإرهابية، وحادثة الدهس في برلين، والاعتداءات الفردية هنا وهناك. هذا وذاك، بالإضافة للتركيز الإعلامي على الجرائم المرتكبة من لاجئين ومهاجرين وأشخاص ذوو أصول أجنبية، وربط هذه الجرائم بالأصل الثقافي للمجرمين، كل هذا، أشعل فتيل الخوف في ألمانيا. 

انتقل المزاج العام تدريجياً، من مشاهد الترحيب باللاجئين في محطات القطار الرئيسية في ميونيخ وفرانكفورت، إلى علو في صوت اليمين المتطرف المناهض للأجانب بشكل عام، بخطاب تحريضي ضد اللاجئين الذين “قدموا وأحضروا معهم أعباء اقتصادية للبلاد وثقافة عنيفة” حسب وصف اليمينيين. 

هذه الأسباب اللوجستية، أو المتعلقة بصناعة القرار، أدت لخسارة الأحزاب الحاكمةCDU, CSU , SPD أصواتها. بشكل رئيسي، فإن الحجة الشعبية المترددة، هي أن قرارات الـ2015 المتعلقة باللجوء كانت وردية أكثر من اللازم وضحت بأمن البلاد لدرجة معينة مقابل أهداف سياسية غير واضحة. 

عالمياً

لا بد هنا من الإشارة إلى التغير في المزاج العالمي ككل منذ 2011 حتى اليوم. حينها كانت فكرة الاتحاد الأوروبي مدعاة للفخر للناخب الأوروبي الذي اعتقد أنه “وصل” لمكان لا يحتاج فيه للتفكير بقضايا الأمن والاستقرار.

الحشد السياسي كان وقتها مبني على القيم والمبادئ، وهو أمر التزمت به مركل ولا تزال. اليوم بعد فشل الحركات الداعية للديمقراطية في عدة بلدان مجاورة للقارة الأوروبية، وأصبح اللاجئ من هذه البلدان ورقة تهديد على الحدود الأوروبية، لا سيما مع الخوف المتزايد من عودة مقاتلي داعش لديارهم، وبعد الاضطرابات في شرق أوروبا وتصاعد الشعور بالخطر من الجار الروسي، وارتفاع حدة النبرة بالتشاور مع أمريكا ورأس هرمها ترمب، لدرجة وصل الأمر لمناقشة جدوى حلف الناتو من أصله، أو التعامل مع الحلف كبزنس بالعلن. 

كل هذه التغيرات الكبرى، تؤدي بالناخب لاعتلاء موجة الواقعية السياسية “Realpolitik” بكل شجاعة، فهو ليس الخوف وحسب، إنه الحاجة للبقاء في القمة بعيداً عن المثل المدعاة. 

الأيديولوجيا

وإذا ما فكرنا بالقيم الحزبية لأحزاب الائتلاف الحاكم ، فإن صورتها كذلك تزعزت بعيون الناخب الألماني. فالأحزاب المسيحية اليوم تدعو وهي في سدة الحكم للتعددية الثقافية، ما يمكن أن نناقشه كانفتاح، والنقاش هنا في اللغة العربية وأمام جموع تحمل ثقافة إسلامية مشرقية. ولكن هذا النقاش في أوروبا يتعرض لهجوم مستمر من المحسوبين على الجانب الأكثر محافظة بين المسيحيين الديمقراطيين، والذين يرون في هذه الأطروحات تعدياً على الهوية الثقافية لألمانيا، التي ترغب بالترحيب بالآخرين، لأسباب كثيرة، ولكنها لا ترغب بتبني ثقافتهم. 

هذا النزاع الأيديولوجي الداخلي في الأحزاب المسيحية يمكن للمرء متابعته بشكل يومي في السياق السياسي الألماني. على سبيل المثال بتصريحات زيهوفر وعدة مسؤوليين مسيحين ديمقراطيين أن “الإسلام لا ينتمي لألمانيا”، لتخرج لاحقاً مركل وتناقض حليفها المسيحي بقول العكس

كذلك الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني SPD، فإنه بغض النظر عن تطورات الأحداث، بمجرد تحالفه مع المسيحيين الديمقراطيين، يقع تحت ضغط أيديولوجي أمام ناخبيه. هذا الضغط يزداد مع قلة الفاعلية للحزب داخل الائتلاف. إن نقطة التقاء CDU/CSU مع SPD في منتصف الخط السياسي في ألمانيا، هي نقطة براغماتية حرجة، وكل درجة ينحدر فيها تحالف CDU/CSU نحو اليمين إرضاء لناخبيه الساخطين على قرارات مابعد الـ2015، هي تضحية بناخبيه للـSPD، الذين يرون حزبهم في تحالف ينحدر تدريجياً نحو اليمين، وهو أقدم حزب اشتراكي في العالم.

الديموغرافيا و الائتلاف الحاكم

إن معدل المشاركة في الانتخابات الأوروبية هو بانخفاض في أوروبا في ال30 عام الماضية. هذا أمر ليس بجديد وهو انعكاس وتمثيل لأزمات الديمقراطية من الخارج والداخل.
يشهد هذا تحسناً طفيفاً مؤخراً، كردة فعل على التغييرات العالمية والمحلية المذكورة أعلاه.

مع الأخذ بالحسبان أن:

1) المجتمع الألماني مجتمع هرم وتعداد السكان يتأثر بشكل متزايد بمعدل الوفيات السنوي، مما ينعكس منطقياً على معدل المشاركة بالانتخابات، وعليه أن يتعدل بمشاركة الأجيال الجديدة بالحراك السياسي.

2) أن الناخبين الشباب أدلوا بأغلب أصواتهم لحزب الخضر.

هذان المتغيران يوضحان أن التغير الديمغرافي في البلاد، ينتج موتاً طبيعياً للأحزاب التقليدية في ألمانيا، والسبب هنا أن الشباب عزفوا عنها، أو أنها لم تستقطبهم بالأصل، وهم بعودتهم للسياسة، ما يدل عليه ارتفاع معدل المشاركة السياسية مؤخراً، دخلوها من أقل الأحزاب أيديولوجية في المشهد السياسي، ألا وهو حزب الخضر.

إن صح هذا التحليل، فهو حرفياً حالة موت بطيء للأحزاب التقليدية. وهذا لا يعني سقوطاً حراً كما يحاول دراميو الساحة السياسية تصوير الموقف. فالناخب المسيحي لازال خمسينياً وفياً لقيمه الحزبية، وإن كان المشهد أقل تفاؤلاً بالنسبة للاشتراكيين.

مواد أخرى للكاتب:

الفردانية في مواجهة سياسات التأطير

نحن و”ألمانيا العظيمة” ما بين إعلاء الآخر والنظرة الدونية للذات

تقرأون في العدد 44 من أبواب: ملف خاص عن “أنظمة التعليم الأوروبية” ومواد أخرى متنوعة

افتتاحية العدد 44: احتفاء بالنجاح