in

القيادة حسب نظرية تأثير الفراشة

أمجد الدهامات – كاتب من العراق

كان عالم الأرصاد الجوية (Edward Lorenz) يجري عمليةً حسابيةً بالكومبيوتر للتنبؤ بالطقس، وبدلاً من أن يدخل بالجهاز العدد (156.642135) كاملاً، اختصره إلى (156.642)، ومع أنّ الفرق قليلٌ بين العددين، لكنه حصّل فرقاً هائلاً بالنتيجة، فاستنتج أنّ الأحداث الصغيرة تتطور وتكبر لتصبح ضخمةً جداً، وسمى ما حدث بنظرية تأثير الفراشة (Butterfly Effect Theory).

إنّ (تأثير الفراشة) مصطلحٌ مجازيٌ لوصف الأحداث وليس تفسيراً لها، فهو يصف الظواهر ذات التأثيرات المتبادلة التي تنجم عن حدثٍ أول، قد يكون بسيطاً بذاته، لكنه يولّد سلسلةً من النتائج والتطورات المتتالية التي يفوق حجمها حدثَ البداية، في أماكن وأزمان غير متوقعة، وكما قال الشاعر: “ومعظم النارِ من مستصغرِ الشرر”.

ويعبر عن هذه النظرية مجازياً بالقول: (إنّ رفرفة جناح فراشةٍ في البرازيل قد تنتج عاصفةً في الصين)! ويوجد مثالٌ مشهورٌ: اثناء الحرب العالمية الأولى وتحديداً يوم 1918/9/28 عثر الجندي البريطاني (Henry Tandey) على جندي ألماني جريح، لكنه أشفق عليه ولم يقتله، لقد كان الجريح هو (هتلر)!

لو أنّ (Tandey) قتل (هتلر) لما حصلت الحرب العالمية الثانية بنتائجها الكارثية، إنّ ما قام به الجندي كان (حركة فراشة) أدت إلى (عاصفةٍ) كبيرة.

مثالٌ آخر: صفعة الشرطية التونسية فادية كامل للشاب محمد بو عزيزي يوم 2010/12/10 أدت إلى (الربيع العربي) وما تبعه من أحداث في تونس، مصر، ليبيا، سوريا، واليمن، كانت الصفعة (حركة فراشة) انتجت (عاصفةً) ضخمةً. 

القيادة حسب نظرية تأثير الفراشة:

يمكن للقائد الذكي الاستفادة من هذه النظرية واستثمارها بطرقٍ كثيرةٍ، أهمها الطرق الثلاث التالية:

أولاً: القائد يلمح ويشخّص حدثاً ما، حتى ولو كان بسيطاً، فيستثمره ليصنع منه عاصفةً كبيرةً: 

وهذا ما فعلته السيدة (Rosa Parks) في مدينة (Montgomery) الأمريكية، فقد كان يوجد قانونٌ للفصل العنصري بين ركاب الحافلات يجبر السود على الجلوس في المقاعد الخلفية ويخصص الأمامية للبيض، ولكن في يوم 1955/12/1 جلست (Parks) على مقعدٍ أماميٍ، ورفضت أن تخليه ليجلس عليه شخصٌ أبيض، وكان هذا الرفض هو رفرفة جناح الفراشة التي أطلقت عاصفة (حركة الحقوق المدنية) المطالبة بالمساواة بين الأعراق في أمريكا.

ثانياً: القائد يلمح ويشخّص أحداثاً بسيطةً وعفويةً تقع مع شخصٍ آخر في مكانٍ ما وزمانٍ ما، ويستثمر هذا الحدث ليصنع منه عاصفةً كبيرةً:

لقد كان اعتقال السيدة (Parks) هو حركة الفراشة بالنسبة للدكتور (Martin Luther King)، فقد قاد نضال السود في (حركة الحقوق المدنية) التي أدت إلى إلغاء قوانين الفصل العنصري في 1964/7/2 

ثالثاً: القائد يلمح ويشخّص أحداثاً بسيطةً وعفويةً ليضع أساساً يتحول بمرور الزمن إلى عاصفةٍ كبيرةٍ مستقبلاً:

في عام (1894) أراد الزعيم الهندي (Mohandas Gandhi) مغادرة دولة جنوب إفريقيا والرجوع لبلده الهند، لكن عندما قررت الحكومة العنصرية منع غير البيض من المشاركة بالانتخابات قرر البقاء، فكانت هذه حركة الفراشة خاصته، وفعلاً بدأ كفاحه السلمي في مواجهة السلطة البيضاء، واستمر على نفس النهج في الهند، فأصبح نضاله السلمي المبني على نظرية اللاعنف (Ahimsa) ملهماً للعديد من القادة والشعوب الذين يناضلون للحصول على حقوقهم سلمياً.

طبعاً حتى الشعوب يمكنها استثمار هذه النظرية، وهذا ما فعله شعب ألمانيا الشرقية السابقة، فعندما عقد ممثل الحكومة الشيوعية Gunter Chabowski)) مؤتمراً صحفياً يوم 1989/11/9 وتسرّع بالإجابة عن سؤالٍ حول موعد السماح للمواطنين بالسفر خارج البلاد وقال: (حالاً – Immediately)، أستثمر الناس هذا الخطأ (حركة الفراشة) وهرعوا نحو جدار برلين وحطموه، وتطورت الأحداث لتكون (عاصفةً) قلعت الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية.

وتكرر الأمر في صربيا يوم 2000/10/5 أثناء حكم الرئيس (Slobodan Milosevic)، حيث كانت (حركة الفراشة) هي قيام أحد المواطنين باقتحام مبنى التلفزيون بواسطة (بلدوزر)، مما أدى إلى اندلاع (ثورة البلدوزر) التي أصبحت (عاصفةً) أطاحت بالدكتاتور.

استراتيجية القط الميت:

العمل وفق نظرية (تأثير الفراشة) ليس سهلاً، فالحياة ليست ورديةً، ويوجد دائماً من يضع العراقيل بطرقٍ كثيرةٍ أهمها استراتيجية القط الميت (Dead Cat Strategy) وهي من أهم طرق إلهاء الناس عن واقعهم، وتؤكد على أنّ تقديم قضيةٍ تافهةٍ أو خبرٍ غير مهمٍ بشكلٍ درامي، أو بقدرٍ كبيرٍ من الإثارة أو الصدمة من شأنه أن يلفت انتباه الجميع، بعيداً عن القضايا المهمة والملحة.

فيتم تضخيم حدثٍ بسيطٍ وهامشي وربّما مفتعلٍ، بواسطة الإعلام و(Social Media)، وتحويله إلى (قطٍ ميتٍ) كبير الحجم يجذب انتباه الناس، ويصبح محوراً للنقاش الحاد ينشغل به الجميع عن قضاياهم المهمة المتعلقة بحياة المواطن وأمنه، وتنمية البلد واستثمار ثرواته، وتحقيق العدالة الاجتماعية وغيرها، والتي يتم تحويلها إلى (فأرٍ صغيرٍ) في حفرةٍ عميقةٍ يتم ردمها بالعديد من قصص القطط الميتة، وبهذا يتحقق الهدف النهائي، بالحديث عما يراد الحديث عنه والابتعاد عما يراد تجاوزه ونسيانه.

وقد كتب وزير الخارجية البريطاني السابق (Boris Johnson): “هناك شيءٌ واحدٌ مؤكدٌ تماماً حول رمي قطٍ ميتٍ على طاولة غرفة الطعام، هو أنّ الجميع سوف يصرخ: (هناك قطٌ ميتٌ على الطاولة)، بمعنى آخر، سوف يتحدثون عن القط الميت – الشيء الذي تريد أنّ يتحدثوا عنه – ولن يتحدثوا عن مشاكلهم وقضاياهم”.

لكنّ أفضل ردٍ على هذه الستراتيجية هو عن طريق:

نظرية البجعة السوداء:

كان الأوروبيون يعتقدون بأنّ كل طيور البجع ذات لونٍ أبيض، ويستحيل وجود بجعٍ أسود اللون، لكن عندما اكتشف الهولنديّ (Willem Janszoon) قارة أستراليا عام (1606) وجد فيها طيور بجعٍ سوداء، فأصبحت عبارة (البجع الأسود) تعني أنّ المستحيل ممكن التحقق.

وفي عام (2007) نشر المفكر (Nassim Taleb) كتابه (The Black Swan)، يؤصل فيه لنظرية (البجعة السوداء) التي يمكن تلخيصها بما يلي: 

إن الأحداث الكبرى في التاريخ، والتي كان يستحيل توقعها، قد حدثت فعلاً، وبشكلٍ مفاجئٍ، مثل: اختراع الراديو، نشوب الحربين العالميتين، تفجيرات 11 سبتمبر، وغيرها، وتتميز هذه الأحداث بثلاث ميزاتٍ:

1. لها عواقبٌ شديدة التأثير.

2. تقع خارج نطاق التوقعات المألوفة.

3. طبيعتنا تجعلنا نجد تفسيراتٍ لها بما يجعلها قابلة للتوقع.

أي أنّ فكرة هذه النظرية ليست التنبؤ بالأحداث، بل تفترض أنّ الأحداث التي تبدو من المستحيلات، يمكن أن تتحقق فعلاً.

وفق هذه النظرية يمكن استثمار الأحداث البسيطة (حركة الفراشة) لخلق (بجعةٍ سوداء)، بعد التخلص من (القطط الميتة).

والمثال الرومانيّ هو الأبرز: فقد قال الدكتاتور (Nicolae Ceausescu): “إنّ احتمالية حدوث ثورةٍ في رومانيا نفس احتمالية أنّ أشجار الصنوبر تثمر الإجاص”!

لكن عندما قررت الحكومة يوم 1989/12/15 نفي القس المعارض للنظام (Laszlo Tokes) من مدينة (Timisoara) تظاهر الآلاف لمنع السلطات من تنفيذ قرارها، وتطورت الأحداث إلى ثورةٍ أطاحت بالنظام خلال أسبوعٍ واحدٍ فقط، وبالنهاية تمّ اعدام الدكتاتور وزوجته.

كان نفي القس هي (حركة الفراشة) ووعود الرئيس هي (القط الميت) لكنّ النتيجة كانت (بجعةً سوداء)!

*aldhamat1@yahoo.com

إقرأ/ي أيضاً:

القيادة بالكاريزما

“القيادة الخادمة” نمط جديد في القيادة التي نشدو إليها

الطريق نحو المساواة في ألمانيا مازال طويلاً… التمييز الجنسي والعمري في مكان العمل


سرطان عنق الرحم والعدوى الصامتة… العفة أم اللقاح؟

خطوطنا الحمراء… والخضراء أيضاً