in

حَقيْبةُ الدّفء

اللوحة للفنان عبد الرزاق شبلوط
موسى الزعيم | كاتب سوري مقيم في برلين

 

“كانتْ أشجعَ منّا حينَ أصرّتْ على البقاء ولم تهاجرْ عصافيرُ الدوري”

صوتُ أمّه في المخاضِ ملأ البيتَ، مَزيجٌ من البُكاءِ والألم، يلفّ أركانَ الغرفةِ الباردةِ، أبوهُ اعُتقلَ منذُ شهرين، والأسرةُ لا تعرفُ عن أخبارهِ شيئًا.

كانَ عليهِ أنْ يحملَ شيئًا من أعباءِ أسرتِهِ، رغم سنواتِه التّي لم تتجاوز الثانية عشْرةَ، نخرَ البردُ عظامهُ وهو يقفُ في صفٍّ طويلٍ يوميًا أمامَ محطّة الوقودِ ليحصلَ على لتراتٍ قليلةٍ من المازوت، يُشعلُ بها مِدفأةَ البيتِ لكن دونَ جَدوى. الأجسادُ الضّخمةُ في الصفّ الطّويلِ تكادُ تسحُقهُ، في ضجيجِ الزّحامِ فيعودُ حاملاً خيبتهُ وانْكساراتِه، فتواسيه أمّهُ بدفء كلماتِها الحنونةِ.

هي الآنَ على وشكِ الولادةِ وبكاءُ أخته الصغيرةِ يملأُ البيتَ.

الحَطب، فكّر كثيرًا بالحطبِ، قليلٌ من العيدانِ قد يَفي بالغرضِ، لكنّ الخروجَ إلى الحقولِ ضَرْبٌ من المستحيلِ، لأن الجنودَ إذا ما رأوَا حركة بينَ الأشجارِ أطلقوا النّار مباشرةً، ألَــــمْ تبقَ حبّاتُ الكرزِ والزيتونِ على أمّهاتها؟ ولم يجرؤ أحدٌ من الفلاحين على الخروجِ إلى الحقولِ لقطافِها؟ جفّتْ على الأشجارِ وتساقطتْ!

تعالى صوتُ أنينِ أمّه من ألمِ المخاضِ.

جيرانُهم ليسوا بأحسنَ حالٍ من أسرتِه، منهُم من هدّه المَرضُ، ومنهم من هُجّرَ من منزلهُ، وآخرونَ يصارعونَ الفقرَ، قلّة من المياسِر في الحيّ، لكنّهم كانوا في الصفّ الآخرِ، هم شركاءَ في صنعِ مأساتهِ،  يفضّل الموتَ على سؤالهم.

زرعتْ خطواتُه أركانَ الغُرفةِ جيئةً وذهابًا، وقعَ نظرُهُ على حقيبتهِ المدرسّية، ملقاةً في إحدى الزوايا، ذكّرته بآخــر مـــرّة ذهبَ فيها إلى المدرسةِ معَ رفاقِه مُنذُ أسبوعينِ، وقتها وجد البابَ مفتوحًا ومجموعة من الجنودِ قد سكنوا في الفُصولِ الدراسيّة، واحرقوا خَشبَ المقاعدِ، بينما مجموعةٌ من الّدباباتِ تربضُ في باحتها.

حينها صرخَ بهم جُندي وطردهم منها، يومها بكى بكاءً مرًا في طريق عودتِه إلى البيتِ.

إذن، ما نفعُ الكتبِ إذا كانتِ المدرسةُ قد تحوّلتْ إلى ثُكنةٍ عسكريّة!

على كلّ حالٍ، الأيام التّي داوم فيها في المدرسة، تعدّ على الأصابعِ هذا العام.

أفرغَ محتوياتِ الحقيبةِ، وراحَ يقلّبها بيديهِ الباردة، الكتبُ والدفاتر، أقلام التلوينِ، وفرشاةُ الرسمِ.

كتابُ الرياضياتِ عزيزٌ عليهِ، كتاب اللغةِ العربيّة يحبّه، كتاب العلوم يعشقُ واجباتِ رسم الأشكالِ فيه. تعالى صوتُ أمّه الولودُ، أخرجه الصراخُ من بينِ وريقاتِ الكتبِ التي يقلّبُها، بينما اقتربت أختُه من المدفأة الخرساءَ..

أمسكَ ورقةً من كتابِ التاريخِ، وضعَها في فمِ المدفأة وأشعلها، انتشر نورٌ ودفءٌ خفيفٌ أمامَ عينيهِ، فرحتْ له أختُه الصغيرة، عندها شَعَرتْ بالّدفء يسري في جسدها الغضّ، بينما راحتْ يداه الصغيرتان تمتدّان إلى بقيّة الكتب والدفاترِ، تمزّقانها وتطعمان المدفأةَ، ودموعه تملأُ خدّيه وهو يردد في قرارةِ نفِسِه: سامْحني يا معلّمي.. سامحني يا أبي.

الحُرِّيّة

قراءة في كتاب ” مزهريّة من مجزرة ” لمصطفى تاج الدين الموسى