in

الحُرِّيّة

د. مازن أكثم سليمان| شاعر وناقد سوري

(1)

كم تُباغِتُ هذهِ الصَّرخةُ: الحُرِّيّة..

هيَ أقرَبُ من مُصطلَح، وأبعَدُ من مَفهوم..

إنَّها فَجوة مُتوحِّشة تُهاجِمُ وتفترِسُ وتمضي بلا أيِّ تأنيبِ ضمير!

(2)

لا وازِعَ للجَمالِ المُطلَقِ سوى انتهازيتِهِ الحَسناء.

(3)

كنتُ أودُّ أنْ أُقحِمَ الأخلاقَ هُنا؛ لكنَّ شيئًا من الاندفاع الزَّهريِّ يخدشُ حيائي: كُنْ كما تُريدُ لمرَّةٍ واحدة فقط، واتركِ التَّأويلات للبيولوجيِّين، فأنتَ خارِجَ سورِ الوراثة..

أنتَ على حبْلِ الخطَرِ، حيثُ يتراقَصُ الوجودُ والعدَمُ في مُخيِّلتِكَ الظَّمأى، وخُطواتُكَ المَسرودةُ في أُفُقٍ بلا حُدودٍ تبعَثُ الحُرِّيّةَ مدينةً للأفكارِ المَنبوذةِ، وحُدوسًا للحرائِقِ التي لا تنطفئ..

(4)

لم أشترِطْ على طريقٍ طولَهُ أو قصرَهُ

احتفيْتُ بالمَسافاتِ احتفاءَ مَحمومٍ

كُلُّ قفزةٍ ولَعٌ مُزمِنٌ بالمُستحيلاتِ

الأنسنةُ كُلِّيّاتٌ تُسوِّغُ مآلاتِها بحفريّاتِ الحُرِّيّةِ

انفتاحُ النِّداءِ يصبُّ في نِسْيَاقاتٍ نسبيّةٍ

لكنَّ روعةَ المُمكِنِ أنْ يكونَ أيُّ احتمالٍ خلّاقًا

لم أرتدِ قفّازاتٍ

وأنا أُخرِجُ الأجنحةَ

مِنَ الثلّاجة التَّقليديّة للطَّيران.

(5)

الحُرِّيّة مسؤوليّة؟!!

كم تخنقُ غيومي مُسّبَّقاتُ الثُّنائيّات..

المسؤوليّة ليسَتْ إلّا ميَلانَ العُشبة، أمّا الحُرِّيّةُ فهيَ قلعُها من جُذورها، وزراعتُها في تُربةِ ضوءٍ خائِن..

(6)

حينَ تنبثِقُ شرارةُ الانزياحِ، وتصهَلُ في مدىً مُهمَلٍ، تطفو المَجهولاتُ في مُراهَقةٍ ذكيّةٍ، وتتناوَبُ أخطاؤها بينَ حُضورٍ باهِرٍ وغيابٍ شاهِق.

(7)

عندما ضاعَتْ قلادةُ الحُرِّيّة

عوَّضتْها السَّماءُ بقمَرٍ، واثنتي عشرةَ نجمة.

وفي نهارٍ باردٍ

لم يعِ أحدٌ أنَّ القلادةَ قد تكونُ نُثاراتٍ مطَريّةً، أو هُبوبَ ريحٍ ملعونةٍ

وحدهُ المَمسوسُ تسمَّرَ تحتَ شمسٍ حارِقة

مُتمسِّكًا بشرشفِ أحلامِهِ اللّيليّة

وعزفَ على مزمارٍ مَنسيّ

ورقصَ كأنَّهُ زوربا.

(8)

ما أنْ تُعلِنَ الحُرِّيّةُ ثورَانَها، يصيرُ الانفجارُ والتَّشظّي والجُنونُ والتَّدميرُ والتَّشتُّتُ والخَلْقُ والابتكارُ والحقدُ والعدالةُ والمحبَّةُ والبُكاءُ والابتسامةُ والعَماءُ والبَصيرةُ والنُّفورُ والاقترابُ والإخفاقُ والانتصارُ والانسِحابُ والانبثاقُ بلاغةً لُغتُها أساليبُ وجودٍ لا تُحتوَى بقواعدَ..

(9)

حتميّةُ الحُرِّيّة تحطيمُ السَّلالمِ المُوسيقيّة لكينونة الرَّعد.

(10)

من عُيونِ الآلام

أنْ يُبعثِرَ نهداكِ فراغًا

كانَ منذُ لحظاتٍ

يجلسُ على كُرسيِّ الحراسةِ

ويتحكَّمُ بمَعاييرِ الأزهارِ والرَّحيقِ وحركيّةِ النَّحلِ والفراشات.

(11)

لا ندَمَ في الحُرِّيّة، لأنَّهُ لا وقتَ للتَّنقيح.

(12)

عندَ الارتماءِ في المَعيش اليوميّ ينتصِبُ تاريخُ ما بعدَ الذّكريّ وما بعدَ الأنثويّ، فلا غايةَ للجنسِ في تلكَ البؤرة سوى تمزيق أيَّة وَحدة مُتعالية، وتفتيت كُلّ مَركزٍ بلذّةِ البَهاءِ المُتلاشي كذكرى لم تأتِ بعد..

(13)

بينَ المَعيش والتّاريخ سريرٌ يُنجِبُ الكُلِّيَّ.

(14)

تكرارُ الاختلافِ حوارٌ مُلتبِس مِدْماكُهُ المَكْرُ: لا الموجُ يطمئنُّ لشواطئِهِ هُنا، ولا الجُزُرُ تُرَى هُناك!!.

 (15)

دموعُ الحُرِّيّة كحليب الأطفال

كُلَّما شربْنا منها أكثَر

ازدَدْنا براءةً في هذا العالم.

(16)

العارُ عدسةٌ تُصوِّرُ الحدَثَ القبيحَ على الهواءِ مُباشَرةً، والمُشاهِدونَ تنتقِلُ إليهِم عدوى الرَّفض بفيروس هارِبٍ من مُختبَرِ الله العتيق: هذا تعريفٌ صلبٌ لنسيمِ الحُرِّيّة الهَشّ.

(17)

ما مِنْ إمكانيّة معَ الحُرِّيّة لكَبْحِ السُّيولِ، وحَصْرِ الفيضاناتِ في مَسارِبِ التَّعيين.

ما مِنْ دلالةٍ تتحكَّمُ بما ينحرِفُ أو يتمزَّقُ ليكونَ ويُوجَدَ.

الكينونةُ زائِفةٌ إنْ لم تقتلِعْ قلبًا من صدْرٍ اعتياديٍّ رتيب.

 (18)

بينَ الخير والحُرِّيّة تمويهٌ عريق.

ليسَتِ الحُرِّيّةُ شرًّا، لكنَّ كُلَّ انفتاحٍ فيهِ جميعُ المُبادَراتِ الحيويّة.

حركيّةُ أيّة ماهيّة -نحوَ- المَجهول تُخلخِلُ مُعادَلةَ الخير والشرّ بلا هُوادة.

النِّسبيّة برْقٌ يسقطُ على سطحِ بيتٍ مَهجور.

في الوقت نفسه: قد يكونُ ساكِنوهُ بهيئة أشباح.

الشَّبَح ليسَ جسَدًا ولا روحًا.

الشَّبَحُ مُجرَّدُ فرضيّةٍ تشعرُ بالنَّقص، ولا تكفُّ عن مُلاحَقةِ البراهين من دون جدوى.

المُلاحَقةُ واللُّهاثُ آليَّتا توليدٍ مُستمرّ للحُرِّيّة.

(19)

الهدمُ هوَ الإلهُ الذي تُقدَّمُ لهُ قرابينُ الحُرِّيّة.

(20)

أوجاعُ المَخاضِ مازوشيّة إلى حدٍّ بعيد، وغيابُ الوضوحِ شهيَّةُ ابتلاع غرائبيّة.

(21)

الهدمُ دائمًا نقيضُ التَّملُّكِ:

التَّملُّكُ في التَّدمير لا يُعيدُ إعمارَ المادّة أو الرّوح؛ بينما يفتتِحُ الهدمُ رئتَيْنِ زمكانيتيْنِ على كُلِّ أوكسجينٍ هارِبٍ مِنَ الائتلافات.

(22)

أيّةُ غرابةٍ أو شذوذٍ ينزَعُ الأُلفةَ هوَ جرثومةُ احتمالٍ جَماليّ.

(23)

السُّلطةُ غير الدّولة، وبينَ الشُّموليّة وحُلْم التَّعدُّديّة تتخارَجُ احتيالات الحُرِّيّة.

كُلُّ دولةٍ أمنيّة هيَ دولة في جيْبِ سُلطة.

تمدُّ الحُرِّيّةُ يدَها أحيانًا، وتسرقُ من جيبٍ ما، فينفِّذونَ عليها الحدّ، ويَقطعونَ يدَها.

غير المُتوقَّع لأحد: أنَّ مكانَ اليدِ المقطوعةِ تتفرَّعُ آلافُ الأيدي..

تطرُّفُ التَّكاثُرِ هذا يُحافِظُ على فَرْقِ الوجود، ونَسْلِ اللُّغات.

الدِّيمقراطيّة أيضًا تحتاجُ يدَ الحُرِّيّة السّارِقة أحيانًا.

كُلُّ ما يَصيرُ مُنجَزًا يُحْبَسُ في جيْبِ سُلطةٍ ما.

(24)

النِّداءُ خمرةٌ جليلة

تقتحِمُ ثَقبَ إبرةِ الرَّغبات

وتُغادِرُ

كاستعارةٍ لم ترتوِ.

الطّوفان لا يُمكِنُ أنْ يملأَ كأسًا

من دونِ أنْ يُحطِّمَهُ.

(25)

لا صفةَ تتبَعُ الحُرِّيّةَ بوصفِها موصوفًا، ولا ترسيمَ تامّ الحُدود لما لا ظلَّ له.

(26)

الحُرِّيّةُ أمُّ المَنافي.

أو: حبْلُ غسيلٍ لإرجاءِ ارتداءِ المعاني.

أو: العُرْيُ ينتحِرُ في مرآة السَّماء، وينثُرُ عطرَهُ في الأرض.

(27)

لكَمْ يَسحرُني التَّغييرُ الأخرَقُ الغامِضُ، والاختلافُ ذو السَّيْفِ المَصقولِ البتّار.

لكَمْ تجيشُ في داخلي الذئابُ التي تنهشُني أوّلاً، ويُغريني التَّفلُّتُ في اللَّعنات بلا رُخْصة.

(28)

المَسؤوليّةُ في الارتماء الوجوديّ، هيَ مَسؤوليّة حِفْظِ النَّوعِ الغجَريِّ للعَواصِفِ والأعاصيرِ، وصفعَةُ الحُرِّيّةِ القاتِلة/الجَميلة، هيَ وحدها المُقدَّسُ الصّامِدُ في التاريخ.

ما هو ذاك الاندماج؟

حَقيْبةُ الدّفء