in

نصف تفاحة، باقة ورد، وفنجان قهوة

نور فليحان | معلّمة سورية  طالبة ماجستير في مجال العمل الاجتماعي وحقوق الإنسان.

صديقتي تتهمني بأن السفر غيّرني فصرت  قليلة الكلام، ولا ترضيها إجابتي في كل مرة تسألني فيها: “كيف تقضين يومك في برلين؟”

غيّرني السفر، لن أنكر ذلك، منحني دروسا في التخلي، التعلّق وتوقع ما لا يتوقع، لو تعلمين كم تبدو غريبة التفاتات الوداع الأخيرة، فهو رحيلي.. أو لعله رحيلهم.

علمني السفر أن أكون صديقة السماء، وكيف ابتسم في وجه الغريب بأن “لا تقلق، كلنا غرباء، تائهون نبحث عن وجهتنا..”.

صديقتي لا تعلم أنني لست قليلة الكلام، لكنّي حاولت أن أجنبها شر ثرثرتي..

كرهت دومًا دروس التعبير في المدرسة، أذكر كيف كان يساورني الضيق من ضرورة التزامنا بعدد محدد من السطور واتباع تراتبية موحدة في الكتابة، ذات مرة استعنت بأمي فصاغت لي عبارة استخدمتها في كل المواضيع التي طلب مني أن أكتبها، تكتب أمي “نستقي من قصص السالفين العبرة والحكمة ونتعلم منها ونستفيد”، فأنسخ ذلك في كل درس من دروس التعبير، حتى وإن كان الموضوع حول الرياضة، وقت الفراغ أو صيد السمك.

أمام بعض الأسئلة يحلو لي أن أجيب بعبثية، بكلمات حقيقية لا تشبه ما نقوله يوميًّا بحكم العادة، مع علمنا بأن ما نخفيه في صدورنا مختلف تمامًا، بذكري لتفاصيل هي التي تمنح يومي قيمة ما، كأن أجيب على سؤالها بأني مثلاً:

أمضي يومي في خيبة أمل، لأن ساعي البريد يبدو أكثر جدية مما توقعت، لا ورد في دراجته، لا شرائط حمراء تزيّن ظرف الرسائل، ولا يبتسم للرسالة قبل أن يودعها الصندوق.

أو أني أطيل تأمل طلاء أظافري المهمل، أسكب القهوة في الفنجان الذي يحوي البن القديم، وأرتب فوضى شعري إن مررت بشارع سخي يمنحني واجهات أرى فيها انعكاسي للحظات وأمضي، يقطعني الوقت أو أقطعه، لست أدري، لكنني أركض على أية حال.

أو أن أحدثها عن شغفي الجديد بالطهي وانتظار رائحة الطعام بلهفة تطمئنني أن الوصفة قد طبقت بالشكل الصحيح، أن أحدثها عني أنا الأنثى، عن امتناني لنعمة الخيال، حيث صورته ترافقني خلال تناول الطعام، عن مراقبتي لتفاصيله، يأكل ما أعددته من طعام كطفل لم ينجبه جسدي، بل قلبي.

أو عن تفاصيلي الأخرى، كانصرافي عن دراستي في الكثير من الأحيان لانشغالي بالتفكير في الكيفية التي تكتسب فيها الكلمات معانيها، فقد حاولت مرارًا أن أفهم معنى “التسلل” في كرة القدم ولم أفلح، حاولوا مساعدتي ولم ينجح ذلك أيضا، في المقابل أعلم تماما كيف “تسلل” إلى النفس حبه.

عن المرة الأولى التي أسمع فيها صوت أجراس الكنيسة بهذا الوضوح، أبحث عن قصاصة ورق لكن حقيبتي جديدة ولم تمتلئ بعد بأوراق صغيرة ملونة أدون عليها كلمات أعجز لاحقا عن قراءتها أو فهم سبب كتابتي لها، أحاول التركيز في مشهد تأرجح الأجراس لكن المدينة اليوم أكثر إلحاحا في سؤالها: “حدثيني عنّي”. لكن ما سلبني تركيزي عندها، هو رنين هاتفي ينذرني بأن رسالة جديدة منه قد وصلت، ألتفت إلى المدينة وأجيب: “ما رأيك لو أحدثك عنه؟”

عن شعوري بأني أشبه أمي كلما مر بي الوقت، كنت أستنكر دوما حرصها على مجموعة من فناجين القهوة، لا تسمح لأحد منا بالمساس بها فهي مجهّزة فقط للضيوف، غرت كثيرا من زوارنا، لكنّي اليوم أخبئ قسمًا مما أملك للضيوف فحسب، وأمعن النظر في وجوه من حولي لأقدم الدواء لمن يشعر بالصداع مثلاً، هل من المعقول أن تكون تلك طريقتي في التعبير عن اشتياقي لها؟

عن ازدحام هاتفي بالكثير من الصور التي أنسى بعد تراكمها سبب وصولها إلى هاتفي، صورة جماعية لأفراد مشتتين على امتداد البلاد يجمعهم إطار “شاشة” والكثير من عمليات “القص” و”التعديل” كفعل صغير ننتصر فيه على المسافة.

تكتب إليف شافاق: “فتاة المدينة تعود إلى منزلها وحيدة”.

أقرأ وأتمنى لو كان باستطاعتي أن أختبئ بين هذه الكلمات، أفتح باب غرفتي لأعانق وحدتي، وأفكر في انعكاس وجهي في عيون كثيرة حرمت منها، في تعلق لهفتي بأضواء حمراء وخضراء ونغمات رنين مختلفة تخبرني بأني قد مررت في بال أحد ما في بلد ما، وأتذكر رسالة من صديقة  تطلب مني فيها أن أخبرها عن يومي في برلين، فأكتب باختصار شديد:

“الكثير من الدراسة، القليل من الوقت”.

تصلني صور جديدة لنصف تفاحة، باقة ورد، وفنجان قهوة.

الصديقة لا تجيب.

أحتضن تفاصيلي وأسأل نفسي: ترى من أكل النصف الآخر من التفاحة؟

 

 

 

ماذا تعرف/ين عن “كبرياء المثليين”؟

شُرفات العويل