in ,

لم الشمل: نهاية انتظار أم نهاية حياة؟

دينا أبو الحسن

 

الإجراءات بسيطة جدًا. ورقة الاحتفاظ بحق لم الشمل من إدارة تسجيل الأجانب، موعد في السفارة، بضعة أوراق تصدّق وتترجم، مقابلة في السفارة، وانتظار يعقبه انتظار قبل الحصول على الفيزا. صحيح أن هذه الإجراءات تستغرق وقتًا قد يفوق قدرة كثيرين على الانتظار والصبر، لكنها خطوات قليلة ما أن ينجزها المرء حتى يجد نفسه وقد “التم شمله” بعائلته التي فارقها قبل عام أو عامين أو أكثر.

 

الخطوات، والانتظار يعرفهما جيدًا كل من مرّ بمحنة لم الشمل بعد الموافقة على طلب لجوئه، هذا إذا كان من المحظوظين الذين حصلوا على حق اللجوء، لا على الحماية الثانوية التي تعني باختصار أن عليهم الانتظار سنتين قبل البدء بتلك الإجراءات.

في المطار يمكنك تمييزهم فورًا بين عشرات المنتظرين. أزواج وزوجات ينتظرون حاملين باقات ورد، آباء وأمهات ينتظرون حاملين ألعابًا وهدايا، وأصدقاء كثر يحيطون بهم وقد جهزوا هواتفهم وكاميراتهم لالتقاط لحظة التئام الشمل وعناق الأحبة، وعرضها فيما بعد على فيسبوك مع الـ “تاغ” المناسب.

 

تنتهي أيام الانتظار ولحظات الترقب وفرحة اللقاء ومباركة الأحبة، ويغلق الباب على العائلة، لتبدأ رحلة التئام حقيقي لا يعرف أحد أين تنتهي. “علينا أولاً البحث عن سكن للعائلة. بل علينا أولاً مراجعة إدارة تسجيل الأجانب للحصول على الإقامات. بل علينا أولاً تسجيل الأطفال في المدارس. بل علينا أولاً التسجيل في الـ “جوب سنتر”. كل هذا بينما أداوم أربع ساعات يوميًا في مدرسة اللغة، ولا أتقن اللغة، ولا أجد وقتًا للدراسة. لا أعرف من أين أبدأ، ولا متى سأستقر. لا أعرف متى سأعيش مع أبنائي، ومتى سأعود إلى بيتي.. إلى إحساسي بأن لي بيتًا وأسرةً.” يقول سالم*، الذي وصلت عائلته من سوريا قبل أربعة أشهر، وما زال يعيش وعائلته في سكن مؤقت بانتظار العثور على بيت. لا يعاني سالم من مشاكل مع زوجته، فزواجهما مبني على الحب والاحترام وعلاقتهما ممتازة، وهو يرى أن الأساس السليم للأسرة هو ما حافظ على تماسكها رغم صعوبة الظروف، لكنه ينظر بقلق إلى المستقبل. “زوجتي محامية، كانت تقود سيارتها وتداوم في مكتبها وحققت كثيرًا من النجاح. كي تستطيع مزاولة مهنتها هنا يلزمها عدة سنوات من الدراسة، هذا إذا توفر الوقت. حاليًا؛ أقصى ما تفكر فيه هو رغبتها بأن تطبخ لنا طبخة نحبها، وحتى هذه الرغبة البسيطة تبدو مستحيلة بسبب السكن المؤقت في فندق. يؤلمني أن أرى معاناتها، ولا أعرف ماذا أفعل.”

 

من جهتها، غامرت نبيلة* ودفعت لسمسار بضعة آلاف لتحصل على بيت معقول، مما أوقعها في ديون كثيرة تعاني عجزًا في سدادها من راتبها المتواضع الذي تحصل عليه من عملها المضني في أحد الفنادق، والذي اضطرت بسببه لتأجيل دورة اللغة عدة مرات، وبالتالي ما زالت بعد ثلاث سنوات من وصولها إلى ألمانيا غير قادرة على تسيير أبسط أمورها بنفسها.

“سكنّا، صحيح، ولكننا أصبحنا بدل الأسرة خمس أسر تعيش في بيت واحد. لم يعد بيننا إلا التعايش المشترك. عملي يرهقني وأعود إلى البيت متعبة، وليس لدي وقت لمتابعة أولادي ومشاكلهم. ليس لدي وقت سوى للتفكير في كيفية سداد ديوني. أفكر أحيانًا أنني استعجلت في لم الشمل، قبل أن أتمكن من تدبير أموري المالية. ربما كنت أفضل حالاً قبل قدومهم، ولكنّهم أولادي ولا أستطيع الاستغناء عنهم. كنت أحلم بساعة لقائهم، واليوم لا أجد في يومي ساعات كافية لهم. ما زالوا يعانون صعوبات في المدارس ويشتاقون لأهلهم وأصدقائهم، وأنا غير قادرة على تعويضهم”، تقول نبيلة.

 

هذا الضغط ربما يكون واحدًا من أسباب ما يمكن اعتباره ظاهرة تفكك الأسر اللاجئة بعد لم الشمل. كثيرًا ما تسمع الحسرات وآهات الندم من الذين تعبوا حتى استطاعوا إحضار عائلاتهم، ومن أفراد عائلاتهم القادمين أيضًا. في الوقت الذي استطاعت فيه أسر كثيرة رأب صدع الفراق وتجاوز الظروف لتعيش حياتها بشكل طبيعي ومستقر، يعيش أزواج آخرون حالة انفصال زوجي حقيقي، لا ينقصه سوى إتمام المعاملات الرسمية ليصبح طلاقًا ناجزًا بين زوجين قضيا عدة سنوات وشكلا أسرة، واجتازا الحرب والنزوح ورحلة الموت واللجوء والبيروقراطية، ليتحطم زواجهما على صخرة لم الشمل..

 

لا توجد حتى الآن إحصائيات حقيقية حول هذه الحالات، ولكنها كثيرة، وفقًا للدكتور عامر المصري، أخصائي الطب النفسي والمعالجة النفسية في برلين، والذي يقول إن أسرًا كثيرة تراجعه في محاولة لحل مشاكلها.

 

“تطفو المشاكل مع تغير موازين القوى لصالح أحد الطرفين، ففي سوريا كان الطرف القوي هو صاحب الدخل، أما في  ألمانيا، فلم يعد الطرف الآخر معتمدًا على الطرف الممول، وبالتالي فهو غير مضطر لتحمله. مع هذا التغير، يفقد صاحب القرار سلطته، وهو أمر لا يستطيع التعود عليه”. يقول الدكتور عامر المصري.

تطفو المشاكل، لأنها غالبا موجودة أصلاً، لكنها بقيت مكتومة بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية.

ويتابع: “أسمع مثلاً مراجعة تقول إنها لم تكن من الأصل تحب زوجها، أو إنها كانت تعاني من مشاكل معه قبل القدوم لألمانيا، لكنها كانت تحت ضغط الحاجة المادية والمجتمع مضطرة لتحمله. هنا يجد المرء استقلاليته الاقتصادية، ويضعف ضغط ورقابة المجتمع من أهل وجيران وغيرهم”.

وبسقوط العوامل الخارجية التي كانت ترغم الأزواج على متابعة حياتهم المشتركة، تبدو تلك الحياة هشة وغير مرغوبة.

يضيف د. عامر: “لا أستطيع أن أقول إن هذا مرض بالنسبة للأشخاص، بل هو مرض مجتمعي. العلاقات كانت مريضة، والحلول الوسط والتنازلات التي كانت تسود الحياة ما عادت محتملة.”

 

كما يسود الشك أحيانًا، خاصة في ظل غياب الزوجين عن بعضهما فترة طويلة، ومع سماعهما لقصص كثيرة عن أزواج وزوجات أقاموا علاقات مع آخرين أثناء فترة بعدهم، ويتصاعد الشك ليصل إلى درجة الاتهام المباشر بالخيانة، والشعور بالذل والمرارة، ما يجعل الحياة المشتركة في غاية الصعوبة. كل العيوب التي كانت محتملة تصبح غير محتملة مع تغير الظرف، والانفتاح على الآخرين الذي يجعل الإنسان غير راضٍ عن قضاء حياته في علاقة مريضة محبطة.

 

“هناك مشاكل كثيرة لها علاقة بتكوين العائلة نفسه، وعلينا أولا تشخيص الأمراض المجتمعية. المشاكل ليست فقط بين الزوجين، بل بينهما من جهة، وبين أولادهما من جهة أخرى. تضعف سلطة الأهل على الأولاد، فلا أحد له الكلمة العليا هنا. يحاول الأولاد بشكل ثوري تغيير هذا الوضع، مما يشغل الأهل كثيرًا، فيطلبون نصيحة المختصين في هذا الموضوع، وهنا تظهر مشاكل قديمة في العلاقة مع الشريك، خاصة في الأسر التي تتراوح أعمار أولادها بين 13 و20 عامًا”.

من جهة أخرى، فإن الأولاد أسرع اندماجًا من الكبار، إذ يتعلمون اللغة بسرعة، وسرعان ما يشكلون علاقات اجتماعية تتماهى مع شكل العلاقات في مجتمعهم الجديد. يقول د. عامر: “بعد عدة أشهر، نرى الأبناء والبنات مندمجين دراسيًا ومجتمعيًا، يقيمون علاقات عاطفية مع أقرانهم، ولا يستطيع الأهل منعهم، خاصة أنهم يصطحبونهم للمساعدة في تسيير أمورهم وفي الترجمة في الدوائر الحكومية مثلاً. لا أستطيع توبيخ ابني ليلاً، ثم الطلب منه مرافقتي إلى الجوب سنتر في الصباح التالي”.

 

ولكن، هل هناك حل يمنع تفكك الأسر؟ يقول د. عامر: “عملي لا يكمن في إيجاد حلول لمشاكل الناس، بل مساعدتهم على فهم ما يحدث، وكثيرًا ما يصل المراجع إلى نتيجة مفادها أن الانفصال هو الحل. عليّ مساعدته ليفهم الوضع، ومدى استعداده للبقاء في هذه العلاقة”.

في سبيل ذلك، يقدم د. عامر استشارات عائلية، حيث يشجع الزوجين على الحديث الصريح. “غياب التواصل قد يكون من أسباب المشاكل، ولكن المكاشفة أحيانًا تجعل استمرار العلاقة أصعب. باختصار، كان الشخص يعيش حياته مريضًا وغير راضٍ. الآن لم يعد مضطرًا لذلك”.

وهو يدعو لإجراء إحصائيات دقيقة لعدد ونوع المشاكل الأسرية، وعدد من طلبوا المساعدة بالفعل من اختصاصي، ومن استطاعوا حل مشاكلهم أو انتهى بهم الأمر إلى الطلاق. ويضيف: “يمكننا من خلال دراسة توزع المشاكل الوصول إلى مسبباتها ومدى انتشارها، وهذا ما أتمناه”.

 

 

* الأسماء مستعارة لحماية الخصوصية

ما هو “المجتمع الألماني – السوري للبحث العلمي”؟

اقتفاء أثر المجاز الأول