in

لمن أنتمــــــــــــــــــــي

اللوحة للفنانة ريم يسّوف

محمد داود*

ها أنا ذا أبدأ بالحلم مجدداً، وأنا أقترب من نهاية عقدي الخامس، وحلمي هذا ليس ككل الأحلام، هو بسيط صغير مشروع ومبهم. نعم مبهم.

كلمة واحدة فقط تشكّل ما أحلم به، كلمة صغيرة من ثلاثة أحرف، أحلم بوطن، وأن أكون مواطن كأي بشري على سطح هذا الكوكب. فبعد مرور نصف قرن تقريباً من النَفَس الأول، لم أحظ بهذه الصفة، ولا حتى لثانية واحدة. والسؤال الذي يأتي قبل الحلم أو بعده هو: لمن أنتمي؟

المعضلة في السؤال هو أنني تكونت من، وفي عدة بلاد تنطق بلغة واحدة يتشابه الناس فيها بكل شيء تقريباً. يتشابهون في آليات التفكير، يتشابهون في طريقة العيش رؤية الأشياء، يتشابهون في الصح والخطأ، يتشابهون في الانتماء تحت رايات الظلم والقهر.

كنت هناك بينهم، وارتكبت خطيئة الانتماء معهم للمجهول المهيمن الغامر المسمى وطن. ماهيته غائمة، ملامحه قاسية خشنة، تفاصيله موحشة ظالمة. مملوك لشياطين يتحكمون بمصائر الناس فيه، ولهم كل ماعلى تلك الأرض من أرواح وتراب وماء ونار.

فلمن أنتمي؟

عشت السنوات العشر الأولى من عمري في غوطة دمشق، تعرفت على الناس أصحاب الأرض وأتقنت لهجتهم، أكلت طعامهم وسرقت الفواكه من أشجارهم مع عصابات الصغار التي أسسناها على فكرة روبن هود، ثم تخلينا عنها بعد أن اكتشفنا لاحقاً أن روبن هود خاصتنا كان لصاً وضيعاً، ومخبراً للسلطة.

عشت همومي وهموم أصدقائي الصغار وعشت أفراحهم وضحكهم وألعابهم. وفي نفس الوقت عشت داخل منزلي انتماءً آخر يغلي بين أهلي القادمين من حرب طارئة في الأردن، وقبلها من فلسطين المسروقة المحترقة بالشعارات، والمحاصرة بالأسلحة الفاسدة. عشت انتماءهم أيضاً ولهجتهم الأصلية.

انتقلنا فجأة لنسكن في مخيم اليرموك، الذي يعيش انتماءه الخاص، لذاته أولاً، ولحلم أصحابه المشبوهين بلعنة الوطن وسراب العودة. عشت انتماءهم وانتمائي، صادقت الكثيرين والتحقت بمنظومات الأفكار المستعرة والمتناقضة في المخيم.

تعرفت على مختلف شرائحه الفلسطينية والسورية، وتعرفت على جيران المخيم الفلاحين، الذين يشبهون هؤلاء الذين كبرت بينهم أولاً. درست المراحل الأولى في المخيم ودرسته، وارتبطت بحاراته وشوارعه العتيقة والحديثة، ولعبت في البساتين المحيطة به، وتعلمت السباحة في التجمعات المائية المنتنة القريبة منه، ثم في مسابحه الفقيرة والضئيلة. عشقت فيه إمرأة واثنتين وأكثر وأكثر. تعلمت أن أكون فلسطينياً… انتميت له.

كبرت في دمشق ودخلت جامعتها، مارست فيها أعمالاً كثيرة أكثرها طولاً تلك التي اخترقت فيها شوارع دمشق من جنوبها إلى شمالها ومن غربها إلى شرقها وأنا أنادي بأعلى صوت على بضاعتي التي يحبها الدمشقيون. عشقت شوارعها وتكسرت روحي على أرصفتها بعد أن انتميت لها. ثم جاء وقت الحقيقة حين أظلمت علينا الجدران كلها، وانقطع النفس وأغلق السجان زنازينه على أجسادنا بعد أن أغلقها منذ الأزل على أرواحنا.

فلمن أنتمي؟

هناك كنا دوماً ننتمي إلى الماضي، الماضي القريب أو التاريخ رغم كل أكاذيبه وتزويره، لكننا نكذب لنعيش ونواصل، كنا نعيش فقط ولا نحيا إلا بما أتاح لنا السجان. كنا ننتمي إلى الحلم والتغيير المرتبط بالماضي، ولم ننتم يوماً إلى المستقبل. فلا مستقبل يمكن أن تفكر به في تلك الأوطان/السجون سوى أن تأكل في يومك التالي، وتمارس الجنس ككل الكائنات، وقد تطمح بأن تجلب لعبة لطفلك، أو تخرج في إجازة الصيف إلى البحر، إن أتاح لك الوقت والمال ذلك. أعود للعبارة الأولى: ها أنا أحلم مجدداً. مع عائلتي الصغيرة، مع ابنتي وابني.

لكن هنا في أوروبا، في هولندا تحديداً، التي قد أحصل على جنسيتها بعد مرور ثلاث سنوات فقط على وجودي فيها، وهي المرة الأولى التي يتاح لي التفكير في الحصول على جنسية ما، بعد أن قضيت أربعة عقود ونصف على هامش البشرية، دون اسم يدوّن في ملفات مكاتب الهجرة والجوازات، إلا كوني غير مرغوب فيه ويجب إبعادي.

هنا التفكير بالمستقبل متاح، هنا تستسيغ طعم الوطن، الوطن الذي يحبك ويساعدك، دون أن تكون مرغماً على الموت في سبيله، هناك الأوطان لها أصحاب وملاكون رسميون وضمنيون. هنا الوطن مستقبل، وهو للجميع بنسبة عالية. لاتجوع هنا ولا تموت من البرد، بل يمكنك أن تطمح أكثر وأكثر. يمكنك أن تكون شاعراً أو كاتباً أو ممثلاً أو راقصاً أو بائعاً متجولاً أو وزيراً ونائباً، وقد تصبح هنا عاطلاً عن العمل ولا تموت جوعاً، أو تتسول لقمة أطفالك. هنا ترى ملامح واضحة لمستقبل أبنائك.

لكن عليك العمل والمساهمة في إكمال المنظومة الجماعية، لتساهم من أجل الآخرين بعملك وجهدك وتحافظ على السوية العالية للرفاهية التي تعيشها هذه البلاد، بل وزيادتها إن أمكن. أنت هنا تعمل أولاً من أجلك ومن أجل عائلتك الصغيرة، وتستطيع فعلاً أن تجد المردود سريعاً بكل بساطة، ثم تعمل لتواصل العيش في وطن يحترمك فقط لأنك إنسان.

هل سأنتمي لهكذا وطن يوماً ما؟

هل أستطيع النسيان وترك كل ما ارتبط في ذاكرتي من فرح مؤقت ووجع مستدام؟ هل سيكبر أطفالي دون انتماء لذاكرة دم قاسية موغلة في التاريخ؟ وأخيراً أنا لمن أنتمي؟ وطني في كل زاوية ينام فيها عاشقان، وطني أسلاك شائكة تتقمص روحي وتمد جذور التعب في شجيرات الانتماء.

محمد داود ـ كاتب سوري / فلسطيني.. مقيم في هولندا

اقرأ أيضاً للكاتب:

عن الذاكرة والخذلان: القدس ـ دمشق

لاجئون وأكثر

أحلم أن أنتخب

اللاجئون بين الاندماج وحلم العودة

طريقة جديدة للتعرف على جنس الجنين دون أشعة

بماذا أجاب أينشتاين على سؤال طفلة مفاده: هل يصلي العلماء؟