in

عن الذاكرة والخذلان: القدس ـ دمشق

 

محمد داود*

لأننا نعيش في ذاكرتنا وتاريخنا، تسحبنا أحداثنا الحياتية دوماً إلى ماصادف حدوثه في وقتنا الراهن.

دائماً مانجد ذكرى ـ غالباً أليمةـ لنستعيدها ونحييها، ونحيي معها شخوصها وأحداثها. وعليه، ففي شهر ديسمبر كانون الأول، تمر الذكرى السنوية الخامسة، لقصف جامع عبد القادر الحسيني بطائرات (الميج) السورية، في قلب مخيم اليرموك. وبمحض الصدفة، تمر هذه الذكرى، بالتزامن مع اعلان دونالد ترامب، أنه سينقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس عاصمة أبدية لدولة إسرائيل.

والذي يجمع الحدثين، أن عبد القادر الحسيني هو القائد الذي استشهد في معركة القسطل، على مشارف مدينة القدس نفسها، التي يتغنى القادة الممانعون باسمها في كل مناسبة، وأهم المناسبات، هي ضرب الشعوب، التي ترزح تحت نيرهم منذ ستة عقود ويزيد.

سقط الحسيني، بعد خذلانه من الزعامات العربية في تلك الأيام، والتي ورّثت مادتها الوضيعة، إلى أبنائها وأحفادها، ليهبّوا اليوم دفاعاً عنها صوتياً، دون تقديم أي إشارةٍ لفعل مايجب أن يُفعل، بل على العكس، كل الإشارات المضمرة والظاهرة، تدل على البيع العلني والنهائي لتلك المدينة المقدسة.

القدس سقطت في تلك الأيام، بعد أن خُذل أهلها من أهلهم، ولم تسقط بعد إعلان ترامب، فالإعلان تحصيل حاصل، بعد النكسات العربية والفلسطينية المتتالية، وآخرها نكسة اتفاقية أوسلو، والنكبة السورية التي تكاد تحطم العقل العربي، الذي كفر بفلسطين وأهلها.

وتعود الذاكرة إلى أصحابها كل يوم.  كل لحظة حدث، كل فرحة وجع، كل ضحكة قهر، كل سكن سجن. وهاهو اللاجئ الجديد هنا في أوروبا، يعيش داخل لعنة ذاكرته التي أفسدها الخراب، وصوت المدافع، وغارات الطائرات الصديقة على أمه وأطفاله.

ولاتغيب لعنة الدم الملقى على موائد الدول الكبرى، وشراهة صبيان الطغاة. لعنة الدم الفلسطيني الذي خُذل على مدار سبعين عاماً، متوجاً بسحب القدس نهائياً إلى مدار آخر، ولعنة الدم السوري، المخذول في سبعة أعوام، بعد سقوط دمشق نهائياً، تحت وطأة الخذلان.

ومازالت اللعنتان تصبان زيتهما، وتؤججان القهر في نفوس الفلسطينيين والسوريين. هي ذاكرة الدم الذي يعيش فينا ونعيش فيه، التي أفسدت كل متعة في حياتنا القادمة، كلعنة على أرواح أطفالنا وأحفادنا الناجين من لعنات سابقة لنا، مترافقة مع حياتنا الموسومة بعدد الشهقات، وقليل من فرحٍ عابرٍ يظلل كل انتكاساتنا.

كل يوم في بلاد اللجوء، يظهر فيها طيف الدم، من تلك البلاد الملعونة، التي قتلت بشرها وشجرها، وأذابت حجرها في لهيب المجازر. أطياف ناس مروا بقربنا، غنوا معنا وراقصونا، أناس غضبوا منا وأغضبونا، شباب كالورد الناهض من غفوة الشتاءات المخرّبة، على أيدي المخبرين.

عبروا من نوافذنا المغلقة، وأضاؤوا مدافئ الحطب الهرم في مدننا المقيدة بالخضوع، المطوقة بسيّافي القبيلة، في مخيمات لجوئنا الأول، التي أكلها الجراد، بلعنة الذاكرة ذاتها، التي أطلقها فتيان ذات أيار، على حدود الأسطورة، في تلال الجولان، في بيوتنا المسيجة بآهات الأجداد، ونكهة الشاي بالميرمية قبل الخراب.

أسماء كثيرة قُتلت، لأنها وقفت في ربيع معزول، لتقول نحن هنا، نحن نريد، نحن ولا شيء سوانا. من مكان على طرف دمشق، وبعد عقود من محاولات طمس وتخريب العقول، خرج آلاف الفتيان، من الجيل الفلسطيني الرابع ، بحافلات حملتهم حتى حدود فلسطين، وهناك وجدهم الصهيوني يحملون فلسطينهم، بعد كل ماقام به ليمحي ذاكرة العودة إلى الأم، ذاكرة الدم المنسي على شطآن العرب العاربة، الدم المفتاح لكل سلطة في تلك الممالك.

قتل الصهيوني عدداً منهم، وتكفَّل الطاغية بما تبقى فيهم من حلم. وهذا لم يعد كافياً لشرط الإلغاء، إذن لابد من التقتيل، والتدمير، و التشريد، واستجلاب شرور الأرض، ليرميها على أنقاض بيوتهم، ويبدأ الدم دورة أقسى وأصعب.

ونبدأ نحن من جديد في دورة ذاكرتنا الأثيرة، هل من خبرٍ عن حسام بعد أربع سنوات من اعتقاله؟ كان يحب الياسمين. هل رأيت فيديو حسان؟ هذا الكتاب طبعه غسان. إياس كان الشهيد الأول. أنس أراد أن يفعل كذا قبل أن.. أشرف استشهد قبل زواجه بشهر. عزت مات في فلسطين، وإيناس أيضاً . محمد مات وهو يجمع الأعشاب على طرف المخيم. خالد تحت التعذيب، رأينا صورته الأيقونة في التسريبات، خليل على الحاجز، أم العبد بطلقة قناص، عند أخذ المساعدات، أبو بلال بعد عودة حبيبته إلى المخيم. استشهدا معاً، وكتبا قصة حب أخرى، اندثرت تحت الركام. أبو مصطفى مات جوعاً، أمجد مات غرقاً، ويستمر الدم في استنهاض الذاكرة، التي خزنّت كل وجع التاريخ لهذه المنطقة ومازالت.

هل نستطيع أن نرى الياسمين أو نشمه بمتعةٍ بعد حسام؟ هل نقرأ كتاباً دون أن نتذكر غسان الشهابي وأنس عمارة؟ هل نأكل الخبيزة، دون أن نذكر العشرات، الذين استشهدوا وهم يجمعونها؟

هل نستطيع أن نحب ونعشق؟

هل نقدر على الضحك؟

هل نتخلص من لعنات آبائنا قبل أن نورّثها لأبنائنا وأحفادنا، فيسطع الدم في جبهاتهم كوسم العبيد؟

هو الدم الذي أفسد كل شيء في ذواكرنا.

نحلم بالجميل، فيخرج صوت الدم في أحلامنا.

نحلم بالنفيس، فنتذكر أن الدم أخذه، أو سيأخذه في تلك البلاد الجحيمية .

رائحة البلاد تطرب القلب، فتقاطعها رائحة الأشلاء، وزئير الخوف… الدم أفسد كل شيء.

(على إثر اعتراف ترامب بـ: القدس عاصمة لإسرائيل)

 

محمد داود. كاتب فلسطيني

اقرأ أيضا:

لاجئون وأكثر

أحلم أن أنتخب

اللاجئون بين الاندماج وحلم العودة

في عيد الشكر.. ثورة تصحيح على النيويورك تايمز

جريمة قتل جديدة في لبنان، وناشطون يحتجون: “العدالة هي ألا يحدث ذلك”