in

مارينا أبراموفيتش جدة فن الأداء: عن الحب، الاكتشاف والتطرف في كل شيء

غيثاء الشعار. كاتبة سوريّة، تدرس (السياسات العامة) في برلين.
أمضت فنانة الأداء الصربية مارينا أبراموفيتش عام 2010، شهرين ونصف في متحف الفن الحديث في نيويورك تجلس يومياً لخمس أو ست ساعات بدون أي حركة، فقط تنظر في عيني من يرغب في الجلوس أمامها في عرض شاهده 29 مليون شخص، وكان هدفه إعطاء الحب غير المشروط للغرباء.

هذا العمل الذي اعتبره البعض تجربة روحية وتساءلوا كيف يمكن الجمع بينه وبين الفن؟! فكان رد مارينا أبراموفيتش جدة فن الأداء: “السياق”..”لأنني فنانة، إذا كنت تصنع الخبز في المخبز وتخبز أفضل خبز، فهذا ليس فنًا. ولكن إذا قمت بخبز الخبز في المتحف فأنت جوزيف بويز*”.

السياق هذا يمكن سحبه على جميع أعمال “جدة فن الأداء” مارينا التي تم وصفها بالطويلة، المجهدة المتطرفة، والمستفزة، استخدمت جسدها على المسرح كمادة فنية وذهبت إلى أقصى الحدود الجسدية والعقلية لاستكشاف قضايا التحول العاطفي والروحي، أرادت التعامل مع الأسئلة الوجودية، مع الذاكرة والألم والخسارة والمثابرة والثقة. 

رقصت في برلين 6 ساعات متواصلة على إيقاع الطبلة الإفريقية عاريةً إلا من غطاء يخفي وجهها وشعرها، حتى لا تشتت انتباه الجمهور، أرادت أن يكون الجسد “مجرداً” وليس شخصية، في أداءٍ سمته “تحرير الجسد” وكان ذلك في العام1976.

قدمت عروضاً خطيرة أبرزها عرضها في بلغراد العام 1974، عندما سلمت نفسها للجمهور لمدة ست ساعات كاملة دون حركة أو رد فعل، وضعت أمامها 72 مادة، تقسم إلى مجموعتين: مواد للمتعة مثل الورد والخبز والعنب والعطور والريش ومواد للإيذاء مثل السكاكين والمقص وشريط معدني وشفرات الحلاقة ومسدس مع خرطوشة، خلال الساعات الأولى لم يحدث الكثير لكن تدريجياً بدأ أشخاص من الحضور بتقبيلها وقدموا لها زهرة، لكن ما لبثوا أن قيدوها ووضعها على الطاولة ووضعوا السكين بين قدميها، أحدهم جرح عنقها بالشفرة ولثم الدم، لمسوها في الأماكن الحساسة ومزقوا ثيابها، أحد الصحفيين الذين كانوا هناك قال “كانوا على وشك القيام باغتصابها”.

أخيراً قام أحدهم برفع المسدس وأراد إطلاق النار عليها فأوقفه الحضور، وعندما مرت الساعات الست للعرض وعادت مارينا إنسانة وليس عملاً فنياً، لم يعد بإمكان الحضور النظر في عينيها، هربوا جميعاً.

“كشف هذا العمل عن شيء فظيع حقًا في الإنسان، فهو يوضح مدى السرعة التي يمكن أن يؤذيك بها أي شخص في ظل ظروف مواتية، إنه يوضح مدى سهولة تجريد شخص لا يُقاوِم من إنسانيته، هذا يدل على أن غالبية الناس الطبيعيينيمكن يصبحوا عنيفين حقاً إذا تم منحهم الفرصة، كشفت مارينا بهذا العرض الوحشية التي تتربص داخل بعض البشر المتحضرين.

مرة أخرى في عمل متطرف تم تقديمه في بينيالي فالنسيا عام 1997 حيث جلست لأربعة أيام فوق كومة من عظام الماشية ونظفتها، في عمل سمته “بلقان الباروك” كرمزٍ للنزاعات الدموية في البلقان، لكن بعد نهاية الحرب هناك يمكن لـ”بلقان الباروك” أن يعيش حيث الحروب الأخرى، في سوريا واليمن وليبيا وفلسطين أيضاً.

مارينا أبراموفيتش جدة فن الأداء.. تجارب وكوارث مفجعة

 عاشت مارينا مع صديقها الألماني الفنان Frank Uwe Laysiepen المُلقب أولاي (الذي  توفي في آذار من هذا العام).  عاشا معاً في سيارة لعدة سنوات وقدما عروضاً مشتركة كثيرة، لاقت الكثير من النجاح إلى أن افترق الاثنان بعد أن مشيا باتجاه بعضهما 2500 متر وافترقا عند سور الصين وعادا بطريقين منفصلين كل على حدى، ما اعتبره الاثنان عملاً فنياً وسمياه “العشاق”، إلى أن التقيا مرة أخرى في العرض الذي قدمته مارينا في متحف الفن الحديث في نيويورك عندما جلس أولاي أمامها فأريقت دموعها وصافحت شريكها السابق.

حررت نفسها من خلال هذه الأعمال الفنية المستمرة حتى الآن بتحدٍ، بنفس الغرابة والتطرف. وصفت حياتها بأنها كانت مليئة بالتجارب والكوارث المفجعة. كثيراً ما تحدثت عن علاقتها المشحونة مع أمها، وعلاقتها مع نفسها وجسدها. في الماضي كانت تجد نفسها قبيحة وغير محبوبة.

من خلال فن الأداء “لم أعد الفتاة القبيحة، بل كيان قدم فكرة”، فالجسد برأيها يتشكل من خلال الثقافة وتغلفه طبقات متعددة تطورت في إطار التقاليد الاجتماعية، وهو مرآة للكون، ومن يدرس الجسم ينظر إلى الكون. كما وضعت نفسها تحت وطأة الإكراه البدني والعقلي الشديدين لإخراج المشاهدين من أنماط التفكير العادية وذلك لأنها فهمت مبكراً أنها تتعلم من الأشياء التي لا تحبها فقط.

هذه الفنانة التي قدمت الكثير من العروض عاريةً لتوصل رسالتها الانسانية، تعرضت للانتقادات من قبل فناني الأداء في جيل السبعينيات لأنها ترتدي ملابس جميلة وتعتني بنفسها، لأنهم يجدون ذلك يتعارض مع فن الأداء الذي يرفض الماديات برأيهم. الأمر الذي ردت عليه مارينا بقولها “من يقول أنك اذا وضعت أحمر شفاه وطليت أظافرك بالأحمر فأنت لست فناناً جيداً؟ أنا أحب الموضة”، كما تم إقحام اسمها بمؤامرة مزعومة من قبل اليمين المتطرف خلال حملة هيلاري كلينتون الانتخابية في العام ٢٠١٦.

تجاوزت مارينا السبعين من عمرها وما زالت تحلم بأن تجد رجلاً تحبه ويقضي معها عطلة نهاية الأسبوع ويتناولان طعامهما معاً، يقبلها كما هي دون أن يحاول تغييرها.

*هذا المقال هو ملخص ما بقي في ذاكرتي بعد أن قرأت الكثير عن مارينا أبراموفيتش وبعد أن شاهدت العديد من المقابلات معها.

   * جوزيف بويز: فنان ألماني وُلد عام 1921 وتوفي عام 1986، برع في فن النحت وفن الأداء في الفترة ما بين الخمسينات و الثمانينات، تميز باستخدام مواد غير تقليدية مثل الشحم واللباد-Felt  التي أثارت الجدل، وأظهرت أعماله تأثره الكبير بالتعاليم الروحانية والأساطير، وتميزت أسماء أعماله بكشفها لمعظم فكرة العمل. “الباحثون المصريون”.

اقرأ/ي أيضاً:

إنه نضال وليس احتفال „Es ist keine Party, es ist ein Kampf“
الأطفال على وسائل التواصل الاجتماعي.. أذية مباشرة ولو بعد حين
أن تكون إنساناً بما تعنيه الكلمة من دلالةٍ “أخلاقية” أو لا تكون.. مصطفى خليفة صاحب رواية “القوقعة”

التحقيق مع طبيب سوري لاجئ في ألمانيا

التحقيق مع سوري آخر بتهمة ارتكاب جرائم تعذيب.. فهل تصبح ألمانيا سجنهم الكبير؟

الإفلاس في القانون الألماني