in

قصة قصيرة: نهاية حفلات التقيؤ

العمل الفني: خليل عبد القادر / www.facebook.com/kalil.kader.9

مصطفى تاج الدين الموسى. قاص سوري

بعد سنةٍ ونصف في هذه الزنزانة، صرتُ متأكداً: إن كلّ عقدة نفسية مدفونة في أعماق الكائن البشري، هي لغمٌ خطير، مجرد أن يدوس القدر عليها، سوف تنفجر لتتناثر أشلاء صاحبها في جهات الكون.

في الحمام، كنتُ منحنياً فوق المغسلة، وأنا على وشك الاختناق، التقط أنفاسي بصعوبة، بعد أن تقيأتُ كلّ ما في جوفي، وصنبور الماء مفتوحٌ على آخره. رفعتُ رأسي ببطءٍ لأتأمل وجهي الشاحب في مرآة المغسلة، تناهى لسمعي ضحكات زيدان في الغرفة المجاورة.

دخلت أصابع يديّ زيدان سطح المرآة، كانت بشعة للغاية، مثل أصابع الوحوش، والتفت على عنقي لتضغط عليه وتخنقني ببطء، على سطح المرأة.

ضحكاته الحقيرة، مزقت ما تبقى من معدتي وأحشائي، كانت هذه حفلة جديدة للتقيؤ، من تلك الحفلات التي اعتدتُ عليها مؤخراً، بعد أن دأب الوغد زيدان على توريطي فيها، عن سابق إصرارٍ وترصد، منذ أن اكتشف سري، وصار بإمكانه إزعاجي وإزعاج معدتي كلما شاء، وتنظيم حفلات تقيؤ تمزقني دائماً من الداخل، دون رحمة.

لكلٍ إنسان عقدة نفسية خاصة به، عليه أن يخفيها جيداً في أعماقه، كمن يخفي جراحه الخطيرة، التي يصعبُ الشفاء منها، حتى لا يعبث ويلهو بها الأوغاد أمثال زيدان.

لدي مشكلة نفسية حقيقية وقديمة من الدجاج المشوي، منذ زمن بعيد لا أستطيع تحمل رؤية دجاجةٍ مشوية، أتقيأ فوراً، وعندما أمشي في شوارع السوق أتحاشى المرور من أمام المطاعم التي تشوي الدجاج على أسياخ في فرن أفقي، للأسف.. بمجرد أن تسقط عينيّ على دجاجة مشوية، أشاهدها فوراً جنيناً بشرياً مشوياً ومقطوع الرأس، عندئذٍ تتقلص معدتي بشكلٍ مريع، وترتجف أحشائي، ثمّ تدخل خلايا جسدي كلها في حفلة تقيؤ، حتى ولو كانت معدتي فارغة.

في ظهيرة يومٍ ما، أغميّ عليّ في سوق المدينة بعد أن تقيأتُ وسقطتُ أرضاً، عندما استدرتُ مصادفة في ذلك الشارع، فشاهدت الأجنة البشرية ذات الرؤوس المقطوعة، تدور ببطءٍ على أسياخ حديدية في فرن على رصيف أحد المطاعم.

لم أراجع أطباء نفسانيين، ولم أعرف ما هو سر هذه العقدة النفسية، لماذا أشاهد الدجاج المشوي على أنه أجنة بشرية؟ ولماذا أشاهد كلّ شخص يلتهم دجاجة مشوية على أنه يلتهم جنيناً بشرياً مشوياً في طبق؟ لا أعرف.. لكنني لطالما داريتُ نفسي بخصوصها، وأهلي أيضاً راعوا مشاعري من أجلي بخصوص الدجاج المشوي، الذي لم يكن يدخل بيتنا إلا في حال سفري.

لكن بقاء الحال من المحال، تغير كل شيء عندما انتقلت للحياة في العاصمة بسبب الدراسة الجامعية، لأسكن في غرفة صغيرة وقريبة من الجامعة، مع وحش أدمي اسمه زيدان، زيدان سرعان ما اكتشف عقدتي النفسية السرية، وبدلاً من أن يراعي مشاعري، صار يتفنن في شراء الدجاج المشوي، وجلبه لالتهامه أمامي في الغرفة، وكأنها هوايته المفضلة.

لم يكتفِ بالتهام الدجاج أمامي، صار يرمي بالدجاجة المشوية ذات الرأس المقطوع على وجهي عندما أكون نائماً، أو يضعها على وسادتي جانب رأسي، لأشاهد جنيناً بشرياً مقطوع الرأس ومشوياً، مجرد أن أفتح عينيَ، وأحياناً يضعها على طاولتي فوق كتبي، أو في خزانتي لترتطم بنظراتي عندما أفتح الباب، وبعد كل مرّة أسرع إلى مغسلة الحمام لأتقيأ وأنا أكاد اختنق.

في الأشهر الأخيرة لم يمل زيدان من شراء الدجاج المشوي، وتنظيم حفلات التقيؤ لي، هي ذاتها حفلات الضحك بالنسبة له.

تعبتُ كثيراً وازداد شحوب وجهي ونحولي، وأنا أرى زيدان في هذه الأشهر يفترس بوحشية تلك الأجنة البشرية، ذات الرؤوس المقطوعة.

في ذلك اليوم كان زيدان مضطرباً للغاية، ثمّة شيءٌ سيء لا أعرفه قد حدث معه، لم يكن طبيعياً أبداً، مشى كثيراً مثل تائهٍ بين الغرفة والمطبخ والحمام، كان يتحدث بقلق مع نفسه بصوت خافت، ويقضم أظافر أصابعه بشكلٍ متوتر. تبادل من خلال هاتفه النقال الأحاديث السريعة والمشحونة خارج الغرفة مع آخرين، يبدو أنهم غاضبون، وأحياناً تبادل الأحاديث مع نفسه، ووجهه يتلون بألوان داكنة، إلى أن غابت الشمس فارتدى ثيابه وخرج مسرعاً إلى حيث لا أعرف.

لم أكترث لأمره، بصراحة، سررت لأن شيئاً سيئاً حدث له فألهاه عن عبثه ولهوه بعقدتي النفسية، كانت هذه ليلة لا تنسى، أخذت فيها معدتي إجازة عن حفلة للتقيؤ.

رجع بعد منتصف الليل، صوت شتائمه دخل الغرفة قبل دخوله وهو يصعد الدرجات، خيل لي من صوته أنه يتحدث مع مئة رجل بكلمات ممطوطة جداً، ركل باب الغرفة ودخلها ليسقط أرضاً، كان مخموراً وقد لوث طين الشوارع ثيابه، حاول أن ينهض ليتابع شجاره مع كائنات غير مرئية، لكنه عجز وسقط مجدداً، أسرعتُ إليه وقد أدمى حاله قلبي ناوياً مساعدته، لكمني عندما انحنيتُ عليه، لكمته كانت متواضعة بسبب الخمر الذي يعصف بجسده.

جررته إلى سريره مع كلماته غير المفهومة، ساعدته على تسلق السرير بصعوبة، ثمّ رميتُ على جسده الغطاء، نام بشكلٍ مضطرب، كانت الكوابيس تفتكُ بجسده المنهك من الخمر، ومن السقوط في الشوارع.

كعادتي قبل أن أنام، نظفتُ أسناني فوق مغسلة الحمام، ثمّ أطفأتُ ضوء الغرفة، استلقيتُ على سريري في العتمة، كنتُ قاب قوسين أو أدنى من النوم، علت جانبي فجأة حشرجات اختناق زيدان، أسرعتُ لأشعل الضوء كان جسده متشنجاً، سرعان ما هدأت حركته، وكأن النار التي داخله قد انطفأت تماماً، حضنته فانتبهتُ إلى جحوظ عينيه، في عينيه رأيتُ أوراق شجرٍ خريفي تتساقط ببطء، ثمة زبد راح يسيل من طرف شفتيه، داهمني خوف عظيم وهزّ كياني، هززتُ زيدان بعنف، لم يجاوب بحرف واحد على صراخي عليه.

حملته لأرميه على كتفي ونزلتُ من الغرفة لأركض به في الشوارع حافي القدمين، تائه الروح، بخوف لم أعش مثله سابقاً.. إلى أن وصلتُ المشفى القريب من غرفتنا.

عندما دخلتُ المشفى انقبض قلبي بفزع، أحسست أنني قد دخلت بناءً مخصصاً للمخاوف البشرية في عتمة الليل، مع كائن بشري يحتضر على كتفي.

ساعدني الطبيب المناوب مع بعض الممرضين، وأنزلوا جسد زيدان عن كتفي إلى سرير في غرفة للمرضى، تفوح منها روائح غريبة.

ابتعدت عنهم حتى اصطدم ظهري بالجدار، وراقبتهم بخوف من بعيد وهم يفحصون جسد زيدان.

أوصلوا للجسد عدة أسلاك وأنابيب، أعطوه حقنة، جربوا أكثر من طريقة، إلى أن صدموه بالكهرباء في صدره، ثمّ يئسوا بعد ساعة تقريباً، استدار الطبيب واقترب مني وهو يتنهد، وأنا أشعر أن الجدار خلفي يبتلعني.

شرح لي بكلمات مقتضبة، دون أن ينظر في عينيّ، أن زيدان قد توفي، انهار الجدار عليّ، طأطأ الممرضون رؤوسهم وخرجوا بصمت تباعاً، ربت الطبيب على كتفي وأشعل سيجارة، عبّ منها وقال لي دون أن ينظر في عينيّ:

ــ لقد وصل متأخراً، ما باليد حيلة، حاولنا جاهدين إنقاذه.. البقية بحياتك.. أرجوك، لا تغادر المشفى، ابقَ هنا قليلاً..

عبّ من سيجارته وروحي مدفونة تحت أنقاض الجدارٍ الإسمنيتي، أردف لي بكلمات علا صداها في أذني:

ــ سوف أكتب التقرير الطبي ريثما تصل الشرطة، لا تقلق، سوف يأخذون منك بعض المعلومات عن المتوفى قبل تسليم جثته لأهله في الصباح، لا تغادر، البقية بحياتك..

وخرج ليتركني وحيداً أمام جثة زيدان، لا يفصل بيني وبينها سوى الضباب الذي تصاعد من سيجارة الطبيب.

كان جسدي يرتعش بقوة، مثل أرضٍ داهمها زلزالٌ عنيف، أشباحٌ كثيرة كانت تصرخ داخل رأسي، وصدى صراخها يرتطم بعظام جمجمتي من الداخل، مع صداها الموجع:

ــ لا تغادر هذه الجثة، لا تغادر هذا الموت، لا تغادر بناء الخوف هذا…

اختنقت أنفاسي، نضب الأكسجين من هذه الغرفة، تحاملتُ على نفسي وجررت رجلّي لأخرج إلى ممرات المشفى ذات الإضاءة المتواضعة، مشيتُ فيها بروحٍ مضطربة على غير هدى، مثل ضائع في الجحيم.

انتبهتُ عن بعد إلى بابٍ موارب، يأتي من خلفه ضوءٌ خافت، وكأنني عثرت على ماءٍ في الصحراء، ومثل كلبٍ شاهد عظمة شهية من بعد، أسرعتُ منهك القوى، والأشباح تطاردني بصراخها المؤلم داخل جمجمتي، إلى الباب الموارب ذي الضوء.

فتحته ودخلت، شاهدتُ حولي حواضن لأجنة بشرية، ثمّة شيءٌ غامضٌ كان يحركني، مددتُ يديّ إلى حاضنة بجانبي لأنزع غطاءها بقوة، التقطتُ من داخلها جنيناً بشرياً وأخذته، أمسكتُ رأسه وشددته بكلّ طاقتي لأفصله عن جسده، وأقذف به بعيداً.

رفعتُ جسد الجنين إلى فمي وبدأتُ التهمه بنهم، التهمته بجوع غير طبيعي.. وكأنه، دجاجة مشوية.

ــــــــــــــ

إسطنبول 20/5/2019

مواضيع ذات صلة:

قراءة في كتاب ” مزهريّة من مجزرة ” لمصطفى تاج الدين الموسى

آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة .. مجموعة قصصية جديدة للقاص السوري مصطفى تاج الدين موسى

مشاجرة بين عائلات عربية تشل حركة المرور في أحد طرق العاصمة برلين…

شعر للدكتور مازن أكثم سليمان: تغافُل