in

قصة قصيرة: قلب امرأة

قلب امرأة
قلب امرأة -قصة قصيرة-

قلب امرأة قصة قصيرة لسامر عباس.

ليالي الصيف غير المقمرة قد تكون شديدة الظلام في قريةٍ نائية، ربما كان هذا من حسن حظ أم أحمد تلك العجوز التي تهيم على وجهها الآن ينبض داخلها قلب امرأة وحيدة. في طرق القرية علّها تجد مكاناً قريباً من البيوت وآمناً، عدا عن ذلك هي لا تريد أن يسألها أحد عن مبتغاها أو عن أي شيء جرى لها.

تحمل الآن مكان قلبها قلب امرأة باكٍ وتنتظر أن تصل لمكان آمن، خطواتها المتعثرة إثر عملها الشاق اليوم في الحقل البعيد جعل من السير بشكل طبيعي أمراً شاقاً، فعمرها الآن وقد ناهزت السبعين لا يطلق رجليها للسير طويلاً بعد عمل شاق. لذا تترنح في مشيتها وتعاود السير بشكل طبيعي إذا ما شعرت باقتراب أحد، وهذه قد تكون مهمة قاسيةً للغاية، وهاهو ذا أبو خليل يتوقف ليتبيّن من هي. بينما تلقي عليه الأمسية. ومن ثم يباغتها بالسؤال: ألست أم أحمد؟ وترد بنعم. وصوتها أقرب إلى الانهيار…

ـ خيراً هل أصابك مكروه ما؟

ــ ذاهبةٌ لعند أختي… سلّم على أم خليل

وتخفّ في الذهاب، كان سيسألها: كيف ولمَ… وكل ما يخطر في باله من وساوس فمن غير الطبيعي أن تسير امرأة خارج بيتها في الثانية عشر ليلاً.!

تتداعى في المسير، قد يهيأ لك فيما لو رأيتها أنّها ستسقط في أيّة لحظة، لكنّ عزيمتها قد تساعدها للسير حتى الصباح… ربما.

أكثر الأشياء التي قد تعطيها القوة هي ذكرياتها عن أعوامها السبعين التي عاشتها. فأنا جارها وأعرفها جيّداً، عاشتها بفرح لا يقطعه سوى مصيبة هنا أو مصيبةٌ هناك. لكنّ الحال عندها متفائل دوماً. وكذلك استطاعت إرادتها الطيبة أن تجعل منها أمّاً لعشرة أولاد متميزين في حياتهم، رغم كل شيء كانت تقدم لهم الرفاهية، حتى في أحلك الظروف التي كانت تتعرض لها. الحياة جيدة وكل شيء ممكن أن يكون جميلاً فقط إذا جعلنا إرادتنا به طيّبةً…

تفترس الحادثة التي صعقتها منذ قليل كل جوارحها وتجعلها مهدّدة بالسقوط لقد سقطت فعلاً في مكان قد يكون بعيداً عن الجميع، وتبدأ البكاء، لا تدري لما البكاء بالضبط، يمرّ أحياناً شبح ابنها المقتول في الحرب الطاحنة الآن ولكنّ وجهه الأبيض الناصع وضحكته تشوّش عليها البكاء، إنّه سعيد الآن، لقد أقسم الجميع أنّه في الجنّة، ومن ثم يباغتها صوت أبي أحمد هذا المساء، صوته الغريب، هل فقد عقله؟

تخرج الكلمات مبحوحةً ملأى بالألم فإذا ما تنفسّت اختنق الكلام في حلقها سمعتها تقول: الويل الويل لي… سأمضي بقيّة حياتي مطأطئة الرأس وخائفة، الويل الويل لي، أين سأعيش وأين سآكل، من سينقل التراب لعرق الزيتون من سيمنح الدالية شكل العروس، بالتأكيد لا أحد، لم جنّ هذا العجوز الآن؟

فقد أحمدٌ في العراق لسنتين ودفعنا كل ما نملك بحثاً عنه، ماتت سعاد بإحدى غزوات الجرب، أصيب عامد بالحمّى جعلته شبه عاجز، ولم يكن ليضعف هذا الأخرق، لم الجنون الآن وهل من المعقول أن يطردني من البيت الآن؟

هل أذهب لبيت ابنتي سلمى؟ لكنّها ستحزن كثيراً علي، ربما ستحزن على حالها، إذ إنني مجرد عبء عليها الآن. كم أشعر بالسعادة عندما أطمئنها على حالنا وأبيها، وكم أشعر بالسعادة عندما تخبرني بأنّ زوجها المرابط هو الآخر بخير الآن. أوه لقد تغيّر الحال الآن، ماذا لو رآني أحد؟

لا بدّ أن أسير لخارج القرية، ماذا يفعل العجوز الأخرق الآن؟، سيجعل منّا أضحوكة القرية.

تنهض أم أحمدٍ بعزيمة عجوز قاسية، وتسير رغماً عن الفيزياء، هكذا أشعر بينما أراقبها من بعيد، إنّها تحرق قلبي، فمنذ أن توفي ولدها في الحرب، جنّ زوجها ومعه خطيبة ابنها التي ماتزال تنتظره، أما هذه العجوز، فقد ازداد ولعها بالزيتون وأصبح الزيتون كلّ أولادها، فلا تطأ رجلها أرض القرية إلّا مساءً ولا تشرق شمس عليها في القرية، أعتقد أنّها جنّت هي الأخرى.

اليوم سمعت صراخاً يدوّي في بيتها وعندما اقتربت، كان زوجها مصرٌّ على طردها بينما كانت تبكي بشدّة، وتذكّره بكل المصائب التي مرّت عليهما إثر خمسين عاماً من الزواج، وكيف استطاعوا أن ينهضوا، لكنّه كان يتحدّث كالمجانين بينما هي تحدّثه كزوجٍ كان وفيّاً لها طوال حياتها.

انهارت سريعاً وجلست تقول كمن يندب: مالذي حصل لنا؟، لقد كنّا سعداء، كان سيتزوّج، خطيبته جميلة، لقد أحببتها من كلّ قلبي، إنّه الصغير ولطالما اتهموني بحبي الزائد له، الويل الويل لقد أحببته كثيراً، ماذا يفعل صغيري الآن؟ كم اشتقت له؟ مالذي جرى لنا، ماذا حصل لهذه القرية، هل جنّ الجميع؟ لا أحد يشعر بحزن الآخر، ماذا يعني عشرة قتلى لحد الآن من هذه القرية الصغيرة ؟ لا شيء… كانوا يموتون بمرض الجدري في سنة واحدة. إذاً لماذا فعل أبو أحمد هذا؟ لمَ منعوا عليّ الحزن على ولدي، لم يسمحوا لي بالبكاء، كنت أزغرد

آهٍ يا ولدي آه

سامر عباس. كاتب من سوريا

اقرأ/ي أيضاً:

وهم الآلات الحاسبة وحسابي “الجيد”
مرجان، سحاب، شيءٌ ما يلتهم الآخر
قصة قصيرة: نهاية حفلات التقيؤ
قصة قصيرة: علاقة ورقية…

مصير موائد الرحمن مع تفشي كورونا

مصير موائد الرحمن مع تفشي كورونا.. الملايين سيفتقدون طقوس الإفطار الرمضاني

نداء عالمي لحماية النساء من العنف المنزلي المتزايد خلال فترة الحجر الصحي