in

قصة قصيرة.. “شعلة قداحة”

كامب اللاجئين
Foto: Czarek Sokolowski/ AP

مي جليلي. قاصة وروائية سورية فلسطينية مقيمة في هولندا
“خلزة” كامب اللاجئين القادمين من مطبات الهواء إلى ذلك المعتقل النازي المهمل، الذي أقام الهولنديون عزاءه منذ سنوات.. إلى أن دخله المهاجرون.

كامب “خلزة” معتقل قديم تسكنه عفاريت هتلر البائسة التي حرست السجن الكبير منذ سنوات، وعادت من سباتها الشتوي لتسرق النظر إلى ليالي اللاجئين الطويلة. يسمع خبط بساطيرَ لجنودٍ يهرولون قرب السور المطلي بالطحالب المزمنة، يخرجون ليلاً بمعاطف الجوخ السميكة، يبحثون عن أحد ما يعيدهم سالمين إلى بلادهم.

همست لي شريكتي الإريترية بغرفة الكامب، أنها رأت هيكل عظمي يلبس بدلة ضابط وعليها نياشين تلمع تحت “اللمبة” المعلقة وراء مطعم الكامب، قالت لي برعب ولغة عربية مكسرة: والله رأيته يقف هناك ويحمل صحن ألمنيوم، كأنه يريد أن يقول لي شيئا، اقتربت منه ورأيت عظام وجهه، صرخت وجمدت في مكاني، رمى الصحن وركض متوارياً بين أشجار الغابة.

ضحكت على تلك اللوثة الغريبة، وهذه الخزعبلات التي أتت بها هذه المسكينة من بلادها. قلت لها:”معقول! شو نحن ناقصين جنون فوق الهموم. قالت وهي تبلع ريقها الجاف، وتمسح أطراف فمها: “والله يا أختي رأيته، وسمعت صوت الصحن يرتطم بالأرض، ولمحت رجلا آخر بين الشجر ينتظره”.
لم يدخل حرفٌ واحدٌ إلى عقلي. قلت لها: “يا نعومة لا يوجد في الدنيا أمواتٌ يعودون ليأكلوا.. كبري عقلك يا بنت”. لم تسمعني، لفّت جسدها الإفريقي النحيل بالبطانية، ونامت مع خوفها.

في اليوم التالي كان لدي موعد في الساعة الثامنة صباحاً مع مشفى في مدينة “ليمبورخ” القريبة، من كامب “خلزة” كان علي أن أركب الباص في الساعة السابعة صباحاً توقيت سيء، سأخرج من غرفة الكمب باكراً إلى مكان لا أعرفه، في شتاء هولندي معتم، تصعد إليه الشمس بالقوة.
في المساء ذهبتُ إلى “كفتريا” الكامب وسألت شاباً يتكلم كم كلمة هولندي كيف أصل هذا العنوان؟
لم يقصر الشاب وأعطاني خريطة طريق خاطئة.

خرجت باكراً، أتحسس الطريق بالعتمة، كان عليّ أن أقطع الغابة كلها كي أصل حتى موقف الباص. في طريقي سمعت خشخشة أقدامٍ تمشي خلفي، توقفت، فهمد الصوت، استجمعت ثقتي بأن الأشباح والأرواح ليس بيني وبينها ثأر، فأنا لا أصدقها وهي لا تصدقني، التفت للوراء دون وجل، كي أتأكد مما أسمعه، لعله أحد ما.
كان درب الغابة مقفراً فتابعت طريقي، عاد الصوت يجر حاله ورائي، قلبي بدأ ينفصل عن ثقتي، وتذكرت صحن الألمنيوم الذي ألقاه الضابط أبو النياشين، وعاد وجه شريكتي في الغرفة يؤكد لي ما رأته، فزاد قرع الطبول في رأسي، صرت أمشي على عجل والصوت يتبعني، إلى أن وصلت موقف الباص، جلست ألهث والتفت حولي.

ثمة شيءٌ يخز قدمي اليمنى، تلمست ساقي وإذ بغصن صغير شائك مشبوك ببنطالي، “ضحكت على حالي.. إذاً أنت ياحقير من كنت تعدو ورائي”.
انتزعت الغصن ورميته بعيداً، أخرجت قنينة قهوة صغيرة من حقيبتي، وسحبت سيجارة من علبة الدخان، وشربت شفة قهوة وبدأت أبحث عن القداحة في جيوب جاكيتي، وأتاني ظن سقيم أنني نسيتها.. لكن شعلة نار برتقالية لمعت في وجهي، كان جندي بكامل عتاده يقف أمامي، ووجهه العظمي الكامد مطبق على صرخة ألم قديمة، الوجه يقدم لي شعلة نار، ومع ناره، يخفق في جوفه صوت مبحوح، وبلغة إنكليزية مكسرة قال لي: سيدتي أنا مثلك لست من هذه البلاد..”

اقرأ/ي أيضاً:

كولونيا ديجنيداد Colonia Dignidad: مستعمرة التعذيب الألمانية في تشيلي
هل يكون المصير المأساوي المنتظر للاجئين هو “سرير بروكرست”؟

توصيات بحفظ معقم اليدين بعيداً عن متناول الأطفال

إسبانيا: بعد ارتفاع حالات التسمم.. توصيات بحفظ معقم اليدين بعيداً عن متناول الأطفال

ألمانيا قد تعيد فرض رقابة على الحدود مع ارتفاع عدد إصابات كورونا في أوروبا

ألمانيا قد تعيد فرض رقابة على الحدود مع ارتفاع عدد إصابات كورونا في أوروبا