in

برلينيات – الجزء الرابع

الصورة للفنان أيهم مليشو

راما جرمقاني.

-1-

في حالات البرد الشديد هنا عادة ما ألجا إلى المعطف الوحيد الذي حملته من دمشق، لا لأنه أكثر سماكة من تلك التي ابتعتها في ألمانيا، بل لقيمته العاطفية، أحتاج لاحتضانه لي، أرتديه مع أنه ليس مناسبًا لقسوة البرد هنا. وللمفارقة لقد اشتريته لأنه صنع في ألمانيا بوقتها! يومها لم يكن يناسب طقس “هناك”، واليوم لم يعد مناسبا لـ “هنا” فالبرد أقسى. معطفي يشبهني كثيرًا. مختلط الهوية. غير قادر على القيام بعمله. لا ينفع لأي مكان. ولا لهذا الزمان على الأقل!

-2-

لا تزال هناك أشياء تصدمني عندما تذكرني أنني أصبحت بعيدة، كرؤية ورقة نقدية سورية في مكان غير متوقع.. رائحتها تعطيها القيمة هذه المرة!

-3-

في كل مرة أعاهد نفسي بألّا أتورط عاطفيًا بأي شخصٍ، بأي صديق، بأي ذكرى، بأي كتاب، بأي فستان، بأي مكان، أخذل نفسي.. لا يمكنني ألا أن أعطي قيمة لمن حولي وما حولي.. استمد وجودي منهم.. أرسم نفسي بهم.. واخسر كثيرًا مع كل فقد.

-4-

عندما كنت أنظف الصحون في منزلي بدمشق، وهي مرات قليلة، كنت وحتى قبل مغادرتي بوقت قصير، كنت أحدث نفسي بالإنكليزية كنوع من التدريب على اللغة، أناقش نفسي وأجادلها وأغلبها بلغةٍ مغايرة، كنت اعتقد أن هذه اللغة هي المستقبل، عرفت قيمة لغتي الأم مع أول أجر تقاضيته على الترجمة من العربية.

-5-

عندما أضل طريقي في أول مرة أذهب فيها إلى أي عنوان، استعين بالتكنولوجيا.. وبعد أشهر في هذه المدينة المعقدة، لم أعد أخشى أن أضيع، فلدي GPS يرشدني دائمًا.. يعطيني تعليمات الانعطاف قبل وقت مسبق.. يخبرني متى يجب أن استمر بالمشي ومتى أتوقف.. ويهنئني عندما أصل إلى وجهتي.. كم أحتاج إلى GPS  لروحي!

-6-

كنا أربعة خارج سوريا فقط.. بعثرتنا الأيام.. اليوم أدركت أن مجموعة الـ what’s app  التي تحمل اسم “الشتات” بدأت تعرف عنا بشكل حرفي.. صديقاتي الستة وأنا السابعة حرفيًا: كل واحدة منا في بلد!!

-7-

بكل أنانية.. خفت من الهدنة.. خفت من أني لن اشعر بأهميتها على الصعيد الشخصي.. لن أختبر شعور الفرح خلال مشوار ربيعي مشيًا على الأقدام من ساحة عرنوس إلى باب توما والحميدية.. لن أتهنى ببوظة بكداش دون صوت رصاص أو قصف يعكر صفوها.. لن أرى عينيك تبتسمان لي وهما تخبراني بفرح “لا قتلى اليوم في بلادي”.. غرت من لحظة فرح عابرة لمن بقيوا هناك.. غرت لأني لا أقدر أن أشاركهم فرحهم.. غرت لأنه ولأول مرة سينامون دون أصوات، وأنا لم تبلل دموع الفرح مخدتي..

-8-

بعد نقاش طويل مع جارتي حول وضع غرفتي المزري.. أخبرتني بكل قسوة.. لا يزعجني عدم الترتيب أو الاهتمام.. تزعجني ملامح الاكتئاب التي تنثرينها في أجمل غرفة بمنزلي!

-9-

أحتاج أمي.. أحتاج لدموعها التي تذرفها عندما تراني أبكي.. أحتاج أن أرتمي في حضنها.. أن أخبرها كل ما يزعجني دون أن أقول شيئا.. ودون أن تسأل.. أحتاجها اليوم لتلعب بشعري حتى أغفو.. أحتاج لاستحضار طقس كنت أمارسه معها عند كل مشكلة تكسرني.. اليوم لا حضن أرتمي فيه.. يدها أصبحت بعيدة لا تخرج من شاشة الكمبيوتر.

-10-

لا أتوقع عادة سوى كلمات المديح من الأشخاص الجدد.. صُدمت وأنا أسمع كلمات نقد لاذعة لحياتي وشكلي وأسلوبي وأولوياتي من شخص أقابله لأول مرة، لم أُستفز، ولم أغادر، كنت أريد تلك الصفعة.. كنت أريد جرس الإنذار الذي يخبرني أن البشاعة التي أحاول أن أخفيها بدأت تظهر للعلن!

 

مواضيع ذات صلة

برلينيات (الجزء الأول)

برلينيات –الجزء الثاني-

برلينيات –الجزء الثالث

مظاهرات في ألمانيا حول مادة التربية الجنسية في المدارس

تواصل مع الوطن والعائلة والأحبة، مع أورتيل .. نحن نتكلم لغتك