in

الطاقة النووية؟ لا شكرًا!

الطاقة النووية؟ لا شكرًا

سلسلة ألمانيا تتلون بالأخضر

حفظ الطاقة، تكرير النفايات، وعدم شراء البيض القادم من دجاج داخل الأقفاص! هذه الأمور قد تبدو غريبة جدًا لكثيرين ممن أتوا حديثًا إلى ألمانيا ليعيشوا بها. كيف وصلت ألمانيا إلى هذا الحد من الهوس بحماية البيئة والطبيعة؟ في هذه السلسلة من المقالات سنقوم بشرح الأمر وتبسيطه.

ليليان بيتان | محررة القسم الألماني 
ترجمة: د. هاني حرب

الجزء الثاني: الطاقة النووية؟ لا شكرًا!

المدينة الصغيرة فاغرزدورف، في منطقة جنوب البفالز معروف عنها موقعها الرائع، المثالي لمناطق حماية الطبيعة والطيور وكذلك أهميتها القديمة بأنها مكان مهم للحصول على الفحم الحجري. عبر سنوات طويلة اختلط اللون الأخضر للغابات النقية مع اللون البني الأسود للفحم الحجري القادم من مناجم الفحم المنتشرة في المنطقة. ولكن فاغرزدورف لم تصبح معروفة لجمال طبيعتها أو لوجود مناجم الفحم الحجري فيها! أصبحت معروفة عام 1985 حين أصبحت منطقة تجهيز النفايات النووية القادمة من المفاعلات النووية المختلفة.

لم يتخيل أحد ضمن الحاشية السياسية في ألمانيا في ذلك الوقت أن سكان المنطقة سيسيرون وسيتظاهرون ضد أماكن تجميع النفايات النووية في منطقتهم. أحد المتظاهرين (فرانز كوربر) الميكانيكي، من منطقة وسط الفرانكن، أحد الأشخاص الذين تملكهم الرعب من خطورة الطاقة النووية وخطورة الإشعاعات الصادرة عنها: “طريقة رمي هذه النفايات وطريقة معالجة اليورانيوم المشع، هذا الشيء يملك طاقة تدميرية مرعبة” ويضيف “عبر هذه المظاهرات نلتقي بأناس من أحزاب مختلفة، من الحزب الديمقراطي الاشتراكي، من حزب الخضر، من أفراد النقابات المختلفة وحتى من إدارة المنطقة نفسها”. بدأت هذه التظاهرات ضد النفايات النووية من الطبقة الوسطى الألمانية ومازالت الحاضنة لها. فاغرزدورف، فايل في البادن – فورتنبرغ وغورليبين في منطقة جنوب الساكسن أصبحت هذه المدن رمزًا للحركة الألمانية ضد الطاقة النووية.

من النشوة النووية إلى “الحادث العظيم” المحتمل!

 خلال العديد من السنوات، اعتبرت الطاقة النووية طاقة المستقبل في ألمانيا. هذا الأمر بدء حوالي ثلاثين عامًا قبل الاعتصامات والمظاهرات في فاغرزدورف. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية اعتمد سياسة إعادة الإعمار خلقت الكثير من الفرص للبحث عن مصادر طاقة بديلة عن الفحم الحجري الذي يؤذي البيئة بشكل كبير جدًا. مجال الأبحاث الخاصة بالطاقة النووية كان سعيدًا بملء هذا الفراغ.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، جميع البرامج العسكرية المتعلّقة بالطاقة النووية تم إيقافها، بينما الاستعمال المدني لهذه الطاقة بقي ممكنًا (إنتاج الطاقة بشكل سلمي) وقد قام السياسيون بالدفع باتجاه تطوير هذه الأبحاث حتى سبعينيات القرن الماضي حيث أصبح هذا المجال ضخمًا وحقق نجاحًا علميًا باهرًا ودعمًا سياسيًا يتعلق بطاقة المستقبل. إن الباحث في التاريخ الدكتور يواخيم رادغاو، المتخصص في تاريخ التكنولوجيا والبيئة، كتب كتابًا بعنوان “صعود وسقوط الاقتصاد النووي الألماني” 2013، يشرح فيه بالتفصيل عن مرحلة “النشوة النووية”.

ولكن لم تبق هذه النشوة إلا أعوامًا قليلة جدًا. في بداية 1970 بدأت حركة الاعتصامات ضد خطورة الطاقة النووية. العديد من القضايا تم طرحها عن خطورة الطاقة النووية ومنها الخطورة الإشعاعية في حال الحوادث في المفاعلات النووية أو نقل النفايات النووية. إضافة إلى ذلك تم طرح قضايا عدم وجود بروتوكولات حماية حقيقة من خطر الإشعاع في حال حصول هزات أرضية أو هجمات إرهابية على هذه المفاعلات. إن الخوف مما تم تسميته “الحادث العظيم” حرك الكثير من الناس للمشاركة في المظاهرات والاعتصامات ضد الطاقة النووية واستخداماتها. العديد من علماء وخبراء الاقتصاد قاموا بطرح فكرة أن الطاقة الكهربائية التي يتم توليدها من الطاقة النووية غالية الثمن أيضًا. إن الدمار المالي والاقتصادي التي سببته الطاقة النووية كان كبيرًا في بعض المناطق كـ فاغرزدورف: في النهاية لم يشأ أحد السكن هناك أو حتى تقضية عطلته الصيفية في منطقة تحوي على مكب للنفايات النووية.

من المفاعل إلى السلاح

بالإضافة إلى العديد من المحاضرات التوضيحية والعديد من القضايا القضائية أصبحت المظاهرات، السلاسل البشرية، والاعتصامات جزءًا من الحراك والاعتراض. خلال الفترة نفسها تم تأسيس حزب الخضر والذي اتخذ من القضايا البيئية جزءًا كبيرًا من برنامجه السياسي والانتخابي ومنها الحركة ضد الطاقة النووية. في العام 1983 دخل الحزب لأول مرة في تاريخه البرلمان الألماني وأصبح التظاهر ضد الطاقة النووية جزءًا من الحركة السياسية في أعلى مستوياتها. “إن الاعتراض والنقاشات ضد السياسات النووية والطاقة النووية كانت من أكثر اللحظات إثارة في تاريخ البرلمان الألماني. يمكن للشخص أن يصفها بالدراما، الكوميديا، أو حتى جزء من التاريخ الإجرامي في ألمانيا” يضيف الباحث يواخيم رادغاو: “ظهرت العديد من الحقائق عن خطورة الطاقة النووية على البيئة والحياة العامة وكذلك العديد من قضايا المعلومات الخاطئة التي تم نشرها على العوام”.

إن المظاهرات في فاغرزدورف اتخذت منحى دارميا حزينا في العام 1986 حين قتل متظاهران اثنان وشرطي خلال المواجهات العنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة الحكومية خلال المظاهرات ضد الطاقة النووية. في تلك الفترة لم يكن (فرانز كوربر) في فاغرزدورف. إن استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية أو أهلية كان أمرًا واحدًا فقط، أما ما هو أخطر فكان التسليح النووي لدول حلف شمال الأطلسي. فحسب اتفاقية الناتو لعام 1979، تم وضع العديد من الصواريخ الأمريكية الحاملة لرؤوس نووية في غرب أوروبا لمواجهة خطر الاتحاد السوفيتي. “في البداية كنا فقط ضد مكبات النفايات النووية، ولكن بعد ذلك توضح لنا أن الأمر مرتبط بالتسليح النووي”. كوربر كان في تلك الفترة يدور كامل ألمانيا مشاركًا بالمظاهرات والمحاضرات التثقيفية عن خطر الطاقة النووية والأسلحة النووية. في إحدى هذه المحاضرات قام بالسفر إلى روسيا حيث قابل زوجته المستقبلية في “مقهى موسكو” في العاصمة الروسية.

لا نهاية دون “الحادث العظيم”؟

في العام 1986 حدث “الحادث العظيم” بالفعل! لم يكن في ألمانيا بل في أوكرانيا. حتى في حال لم تؤدي كارثة تشرنوبل في أوكرانيا إلى الخروج من استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية بشكل مباشر، ولكنها دفعت للبدء بالبحث عن مصادر الطاقة البديلة وأعطت الحركة ضد الطاقة النووية دفعة إيجابية نحو الأمام.

في العام 1989 توقف العمل في مكب النفايات النووية في فاغرزدورف وأصبحت مسألة الصواريخ النووية التابعة لحلف شمال الأطلسي أمرًا من الماضي وخصوصًا مع سقوط الاتحاد السوفيتي.

في العام 1992 وبعد الوحدة الألمانية بدأت النقاشات حول خروج ألمانيا من السوق النووية وإيجاد حلول بديلة لإنتاج الطاقة.

في العام 1998 وحين قام الحزب الديمقراطي الاشتراكي مع حزب الخضر بتشكيل الحكومة لأول مرة، تم وضع خطة الخروج من سوق الطاقة النووية بشكل حقيقي تحت راية المستشار جيرهارد شرودر عام 2000. بقيت هذه الخطة على حالها ولم يكتب لها التحقيق رغم وجود الإرادة من قبل العديد من مراكز صنع القرار في ألمانيا.

في العام 2010 تحت راية الحزب الديمقراطي المسيحي بقيادة المستشارة أنجيلا ميركل تم تمديد فترة العمل بالطاقة النووية فترة إضافية.

في آذار/مارس من عام 2011 حدث “حادث عظيم” آخر في مفاعل فوكوشيما الياباني، حيث سبب هذا الأمر حركة غير عادية ضد الطاقة النووية، وأدى بعدها بثلاثة أشهر إلى قرار الحكومة الألمانية بالخروج من سوق الطاقة النووية ولكن دون تحديد المدة الزمنية.

هذا العام يشكل للسيد رادغاو تحولاً تاريخيًا وهزيمة تاريخية للمجتمع النووي الألماني. أيضًا فرانز كوربر مقتنع تمامًا أن: “اللوبي النووي في ألمانيا خسر بشكل نهائي”. هنالك بعض عدم الارتياح في المجتمع الألماني، ولكن هذا يأتي من خلف الحدود. عبر الحدود التشيكية – الألمانية يتظاهر كثيرون في منطقة البايرن ضد المفاعل النووي التشيكي في تملين، ويقول كوربر: “مازال هنالك خوف من كارثة نووية عبر الحدود”. في التشييك وفرنسا مازال اللوبي النووي مسيطرًا على مراكز الطاقة في هاتين الدولتين. هنالك الكثير من المظاهرات ضد الطاقة النووية في هذه الدول ولكنها مازالت أضعف من مثيلاتها في ألمانيا.

في القسم التالي من سلسلة المقالات هذه سنقوم بالتحدث عن “الطاقات المتجددة، ماهيتها وكيف يتم توليدها؟”

من سلسلة ألمانيا تتلون بالأخضر،

إقرأ:

في البدء كانت الغابة

معهد ماكس بلانك: البحث في فنون تعلم اللغة الجديدة

اللهب والعنقاء السورية