in

الألمان وعقدة الذنب.. متى النهاية؟

النصب التذكاري لضحايا الهولوكوست في برلين

د. هاني حرب* المكان: برلين – الحدث: مظاهرة ضد إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تضمنت إحراق العلم الإسرائيلي. والنتيجة: إعلان الحكومة الألمانية أن ما حدث في المظاهرة، يرقى لكره اليهود، ومعاداة السامية، وأن حرق العلم الإسرائيلي يعتبر علامة كراهية، وتغريم العشرات ممن كانوا في المظاهرة، بغرامات مالية طائلة.

السؤال الذي يعتريني دائماً، متى يتخلص الألمان من العقدة اليهودية ولماذا يعتبر العداء للحركة الصهيونية، عداءً للدين اليهودي؟ وأن حرق العلم الإسرائيلي هو عمل نابع عن كره اليهود كأتباع دينٍ سماويٍ؟

إن المشكلة المتجذرة في التاريخ الألماني الحديث تنبع عن عقدة الذنب تجاه اليهود وتحمل المسؤولية عما ارتكبه النظام النازي الألماني ضد اليهود في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. هذه العقدة تعتبر من أساسيات الدستور (القانون الأساسي) الألماني، الذي تمت كتابته في نهاية الحرب العالمية الثانية من العام ١٩٤٥.

بدأت عقدة المسؤولية “العقدة اليهودية” بإقامة النظام النازي الألماني محارق ضخمة لليهود، ومعتقلات كبيرة مازالت موجودة لتذكيرنا بالـ “هولوكوست” أو ما يسمى المحرقة اليهودية، حيث تم سجن وقتل آلاف اليهود الأوروبيين، إما حرقاً أو خنقاً في عنابر الغاز. منذ ذلك الحين ومنذ عام ١٩٤٦، تدفع ألمانيا سنوياً مبالغ مالية طائلة ليس لعائلات هؤلاء اليهود الذين تم قتلهم، بل إلى دولة إسرائيل، باعتبارها مفوضاً ومتحدثاً باسم كل يهود العالم.

أتساءل هنا في عام ٢٠١٨، أي بعد ٧٣ عاماً من انتهاء الحرب العالمية الثانية، هل مازال الألمان مدينين بأموالهم وعقولهم لإسرائيل؟ إن اعتبرنا الأمر بمثابة رد الحقوق لأصحابها، أليس من الأَولى لألمانيا كدولة تتزعم الاتحاد الاوروبي، أن تطالب فرنسا بالاعتذار عن مجازرها في الجزائر، وأن تساند مطالب الجزائر بتعويضات ضخمة من فرنسا لقاء احتلالٍ استمرّ ١٦٦ عاماً، وقتلِ أكثر من مليون شهيد خلال تلك الحقبة الاستعمارية؟

هل تعلم معنى السامية ومعاداتها أصلاً

من ناحيةٍ أخرى، نجد التهمة الشهيرة “معاداة السامية” يحملها الألمان بشكل خاص، والغرب بشكل عام، ويوجهونها لكل من ينتقد شخصاً أو حالةً أو تمثيلاً يهودياً. وهنا أرى نفسي مضطراً لتقديم شرح تاريخي بسيط عن السامية وأصلها ومن هم الساميون.

الساميون: مصطلح يصف أي مجموعة إثنية أو ثقافية أو عرقية تتحدث باللغات السامية، واستخدم المصطلح لأول مرة عام ١٧٧٠ كاشتقاق من سام أحد أبناء نوح الثلاثة (سام، حام ويافث).

أما الباحث الإيطالي لويجي كافالي- سفورزا، والباحثان باولو مينوزي والبيرتو بيازا، في كتابهم “تاريخ وجغرافية الجينات البشرية” أوضحوا أن الدراسات الجينية التي تمت على كلٍ من: يهود الأشكيناز، وسيفراديم، والميزراحي، وكذلك على العرب، السريان، السومريين، المارون، الدروز، والمندائيين، أثبتت أنهم جميعاً يشتركون بأصل جيني واحد، يرجع إلى مناطق الشرق الأوسط والهلال الخصيب، ورغم وجود اختلافات جينية بسيطة تدل على أنهم شعوب مختلفة، فإنهم يشتركون جميعاً بأنهم من أصل “ساميٍّ” واحد ويتحدثون اللغات السامية الأساسية، وهي الآرامية، العبرية والعربية.

أما مصطلح “معاداة السامية” فقد أطلقه للمرة الأولى سنة ١٨٦٠ المفكر النمساوي اليهودي اشتينشنيدر، وبقي غير متداول حتى سنة ١٨٧٣ حيث استعمله الصحفي الألماني ويلهلم مار في كتيبٍ عنوانه “انتصار اليهودية على الألمانية”، احتجاجاً على تنامي قوّة اليهود في الغرب، واصفًاً إياهم بأشخاص بلا مبدأ أو أصل، ثم أسس رابطة المعادين للسامية سنة ١٨٧٩. من هنا نرى أن ربط السامية باليهودية هو أمر قام به اليهود أنفسهم، رافضين تماماً وجود ملايين الساميين من غير اليهود. وهذا يثبت أن تهمة معاداة السامية، يتم إطلاقها جزافاً من قبل وسائل الإعلام الألمانية، دون فهم حقيقي لمن هم الساميون. وبالتأكيد يأتي ذلك كاستمرار لـ “العقدة اليهودية”.

ما بين إحراق العلم الإسرائيلي والإيراني وعلم حزب الله:

أعود ثانيةً لمظاهرة برلين حيث أُحرقَ العلم الإسرائيلي احتجاجاً على الممارسات “الصهيونية“، وهنا علينا التمييز بين الصهيونية، كحركة عنصرية تدعو لإفناء الآخر، وبين اليهودية كدين سماوي، وبالتالي لا دلالة على مهاجمة اليهودية كدين. في نفس السياق سأضع مثال حرق العلم الإيراني أو علم حزب الله اللبناني، إما من قبل المتظاهرين الأمريكيين في إحدى المرات، ومن قبل المتظاهرين العرب الرافضين للسياسات الإيرانية، أو التبعيات الأخرى له في الدول العربية، حيث أن كلا العلمين يحملان اسم “الله” عز وجل هما يرتبطان في الحالتين بالدين الإسلامي، ولكن لا يمكننا أن نقول أن هؤلاء المتظاهرين يهاجمون الإسلام كدين، بل يهاجمون الدلالة السياسية للعلم.

بالطبع المشكلة ليست أحادية الجانب، فالكثير من المتظاهرين يحولون القضية الرئيسة ضد الصهيونية، إلى قضية إسلاموية، عبر هتافات باللغة العربية لا تفيد في إيصال الرسالة المطلوبة إلى الألمان كما أنها تثير الريبة لدى البعض، مثل التكبيرات ومقولاتٍ مثل “خيبر خيبر يا يهود.. جيش محمـد سوف يعود” “عالأقصى جايين شهداء بالملايين”، وفي هذا ما يسحب التظاهر من مظاهرة فلسطينية ضد محتل إسرائيلي، إلى تظاهرة مسلمين ضد يهود (دين ضد دين). هنا تكمن المشكلة الأخرى بإيصال الرسالة الحقيقية و الفكرة الأساسية للقضية الفلسطينية، ضد احتلال صهيوني إسرائيلي.

من هنا نعود للسؤال: عند مهاجمة إسرائيل، ككيان سياسي يقوم بسياسات استيطانية وهدامة تجاه العرب الفلسطينيين، فأين تماماً تقع تهمة معاداة السامية، التي يتم كيلها دون أي برهان؟

إلى متى ستبقى السياسة الألمانية مرتبطة بذنب مضى عليه أكثر من ٧٣ عاماً؟

عند الحديث مع الكثير من الألمان، يخبرونني ولو سراً، أن هذا الذنب كان على زمن أجدادهم أو آبائهم في الحقبة النازية البغيضة، ولكننا الآن في القرن الواحد والعشرين، ومازال الألمان يدفعون سنوياً ثمن خطأ قامت به دولة زالت، وحلّت محلها دولة أخرى. إذ تدفع ألمانيا مبلغ ٤٢٤ مليون يورو سنوياً لإسرائيل كتعويضات عن الحرب العالمية الثانية. وحتى العام ٢٠١٧ تكون ألمانيا قد دفعت ما يقارب ٢٩ مليار يورو كتعويضات. يتساءل الكثير من الألمان من الأجيال الصغيرة، لم علينا أن ندفع هذا المبلغ الضخم سنوياً؟ عشرة أو عشرون عاماً أمر مفهوم ويمكن تقبله، ولكن أن تدفع لشخص تعويضاً عن أمر قام به جدك أو جد جدك، لجد ذاك الشخص أو جد جده بعد ٧٣ عاماً، فإن الأمر يتجاوز حدود المعقول والطبيعي.

في النهاية فإن العقدة اليهودية الألمانية المتجسدة بالخوف الكبير من أي شيء يقال ضد الصهيونية، وربطه مباشرةً بكره اليهود، وتأويله بعد ذلك خطأً، بمعاداة أكثر من ثلث سكان الأرض، بوصفه معاداة للسامية لهو من أغرب ما قامت به الماكينات الألمانية، التي أنجبت علماء كآينشتاين، هايزبرغ وغيرهما الكثير، وعلى الألمان أنفسهم أن يتحرروا من تلك القيود، ليكونوا أكثر قدرة مستقبلاً على تحكيم الأمور بشكل أكثر حيادية.

د. هاني حرب. باحث في جامعة هارفارد – US، باحث سابق في جامعة فيليبس ماربورغ – ألمانيا

اقرأ أيضاً

العام الثالث: تحديات وطموحات

مجرمو حرب بين اللاجئين

هل تعتبر ألمانيا دولة علمانية؟

استطلاع: كثير من الأوروبيين خائفون من الإرهاب عن طريق اللاجئين

شخصية العدد : حنة آرنت – Johanna Arendt

كيف بدأتُ مشروعاً تجارياً في ألمانيا؟ تجربة شخصية جداً..