in

كمامات ملونة..

اسم العيد

جان داود.
في الساعة الرابعة فجراً، أستيقظ أنا وأختي التي تكبرني بخمس سنوات، بكل ما أوتينا من فرح نبدأ استعداداتنا السنوية بحلول العيد.. قد يبدو كل ما سأكتبه هنا مكرراً كموضوع تعبيرٍ عن العيد، لا يهم.. قلبي فيه رفة ذكرى وسأكتبها.

“بالنسبة لي على الأقل” لم يكن مهماً ما هو اسم العيد ولا ديانته ولا نوعه، كنت أنتظر هذا اليوم وكأنه ملكٌ لي وحدي، وكأن كل الثياب والأحذية الملونة والملاهي أشياء لن أراها إلا في هذا اليوم.

لم أكن أجرؤ في ذلك الوقت على النوم بجانب حذائي الجديد، لكنه كان حلمي الطفولي في ليلة الوقفة. كنت أطير بهذا الحذاء، وكما في الرسوم المتحركة أتنقل به في منزلٍ أخضر على ضفاف بحيرة.

صباح العيد.. لا أعلم هل كان جميلاً فعلاً أم أنني أتذكره كذلك! مفعماً على الأغلب بروائح الفطور السنوي المميز الذي كان بمثابة هدية من والديّ لي ولإخوتي، كنا نتسابق على دخول الحمام -الذي كنت أهرب منه في الأيام العادية بسبب العذاب الذي يسببه لي طول وغزارة شعري-، لكن الحمام في هذا اليوم له نكهة مختلفة، حتى أني ما زلت أتذكر رائحة الشامبو الجديد والسائل الآخر الساحر الذي كان ينقذ شعري من قسوة التسريح بالفرشاة، لاحقاً علمت أن اسمه “بلسم”.

نرتدي الأثواب الفلسطينية المطرزة لنا خصيصاً أنا وأختي، نزين شعرنا وأعناقنا بالإكسسوارات البلاستيكية التي اشتريناها لهذا اليوم، نرش العطر من الزجاجة الخاصة بأبي، ونخرج إلى وجهتنا الأولى. الحارات مزدحمة بشكل لا يصدق، وتكبيرات صلاة العيد الآتية من مكبرات صوت عالية الجودة تصدح في قلبي وفي الشوارع، هل كنتُ أحبها حقاً؟.

نبات الآس المندّى بالماء يمتد على جانبي الحارة مشكلاً سوراً أخضراً يفصل باعة الذرة المسلوقة والفول النابت عن الجماهير القادمة إلى المقبرة. لم يكن لنا أحدٌ هناك، ولم أكن أعلم في ذلك الوقت أننا نزور الأرواح في المقابر، وأننا نسدد سلفاً زيارات لمن سنتركهم هناك لاحقاً بدون شواهد على قبورهم، ثم في الحرب، بدون قبور حتى.. نوزع الحلوى ونضع الآس على قبورٍ لا على التعيين، ثم نغادر بهدوء إلى المنزل ليبدأ اسم العيد السعيد.

رائحة المعمول تفوح في الأرجاء، والجارات الجميلات يوزعن العيديات علينا نحن أطفال العيد، أبي يقف مع الجيران يتبادلون الأحاديث والتهاني والدعوات لزيارة المنازل المتواضعة المليئة بالحكايا التي سمعوها مئات المرات من قبل.

صبايا الحارة المتأنقات والمختبئات خلف خجلهن الأنثوي العذب، يسرقن عمداً عقول شباب الحارة، صراخ الأطفال الأصغر سناً وقتالهم فيما بينهم على من سيبدأ أولاً بالركوب في المرجوحة الوحيدة والمتواضعة التي نصبها صاحب البقالة أبو جمال يرنّ في أذني الآن.

كان يركض العيد فينا وكنا نطير بفساتين ملونة وعيديات صغيرة لنغزو ساحة العيد كأننا في بلاد العجائب.

الآن في غربتي، في بلادٍ لا أميز فيها أيام الأسبوع عن بعضها ولا أبالي لمرور الشهر إلا في نهايته حينما أتفقد حسابي البنكي، أعرف من المعايدات التي تصلني على هاتفي أن العيد على الأبواب، لا يشبه شيئاً حفظته وعايشته من أعياد من قبل، لا شيء فيه يدفعني للفرح أو التجديد ولا حتى إكراماً لذكريات تلك الطفلة التي كنتها.

أفكر فقط بقلبٍ مكسور، بأنني ربما كنت سأستطيع أن أقصّ لابنتي ذات الستة عشر عاماً حكايا عن الحارة وعن اسم العيد الدافئ فيها.. أو قصصاً عن أبي وأمي، جديها الراقدين الآن في المقبرة لو لم تأكل الحرب والقنابل ما تبقى من شواهدها.

وربما كان من الممكن أن أستعيد نكهة العيد لو أنني أُفلت من ذاكرتي القريبة، ومن وجوه الشهداء وصور جثثهم المتناثرة على طول الشوارع بدلاً من نبات الآس وعربات الباعة.

ولربما كنت سأتمكن من اختراع طقوس فرح لابنتي وأن أشتري لها ثياباً ملونة بدلاً من كمامات ملونة لو أن هذا العالم لا يتابع سيره حثيثاً نحو السواد.

اقرأ/ي أيضاً:

“معيدين” في ألمانيا.. وقلوبنا ليست معنا
سيدات سوريات ينجحن في إقامة وإدارة مشاريعهن في ألمانيا.. “ساعي الحب”
على قيد الفرح بثياب العيد … حتى ولو بالحيلة
كعك العيد، ستة أنواع شهيرة لكعك العيد وحلوياته في ألمانيا

آلاف المتعافين من كورونا قد يصابون بهذا المرض القاتل

آلاف المتعافين من كورونا قد يصابون بهذا المرض القاتل في غضون عام

ألمانيا تستقبل دفعة جديدة من اللاجئين القصر من اليونان

ألمانيا تستقبل دفعة جديدة من اللاجئين القصر المرضى وأفراد من أسرهم من اليونان