in

سؤال الانتماء والتكيّف: حين يفقد اللاجئ شبكة الحماية الاجتماعية

اللوحة للفنان عمران يونس - Facebook/Omran-Younis_artwork

بقلم صبر درويش*

بقدر ما يبدو سؤال “الهوية” و”الانتماء” سؤالاً بسيطاً بالنسبة للعموم، بقدر ما يبدو خاصاً بشريحة المثقفين المشغولين بوضع التعاريف، ولكن يبدو السؤال ذاته محرجاً للغاية ما إن يغادر الفرد مكانه الطبيعي منتقلاً قسراً إلى مكان آخر كلاجئ ومنفي أو مهاجر.

في المنفى يحضر سؤال الانتماء بقوّة لدى الفرد، مثقفاً وغير مثقف، ويصبح مرافقاً لكل تفاصيل حياته: من أنا؟ وبقدر ما يبدو بديهياً في البلد الأصلي، بقدر ما تبدو الإجابات في غاية التعقيد في المنفى. هنا لم يعد من شيء بديهي سوى المنفى ذاته!

إشكالية “الانتماء” معقّدة، تطال الجانب الاجتماعي السياسي، وهو ما يحيل إلى مفهوم الفاعلية (الاجتماعية والسياسية) لدى الفرد والجماعة، فالجانب الاجتماعي الثقافي يتعلق بتعريف الفرد والجماعة لذاتها تعريفاً ثقافياً، يطال الاعتقاد وأنماط التفكير والمعايير القيمية التي تنظم حياة الجماعة، وعملية التواصل الاجتماعي بالمعنى الواسع لكلمة “تواصل”.

 على الصعيد الاجتماعي الثقافي تجد الجماعة المهاجرة قسراً نفسها وحيدة، وقد اقتلعت من ظروف حياتها الطبيعية، ويجد الفرد ذاته “غريباً” في بيئة غريبة. تفقد الجماعة لحظة الهجرة مكونات حياتها الطبيعية، وأهم ما تفقده ما سأدعوه: شبكة الحماية الاجتماعية“، وهي بالنسبة للجماعة السورية تتمثّل بالعائلة وأبناء الحي، العشيرة والطائفة..إلخ. وهي الشبكات الاجتماعية التي توفر للفرد الاستقرار والأمان والشعور بالانتماء.

في لبنان مثلاً، وداخل مخيمات اللجوء التي سكنها لاجئون سوريون منذ 2011، يظهر أيضاً سؤال الانتماء حيث اختار الكثير منهم العيش بجماعات متقاربة تضم أبناء الحيّ أو المنطقة التي عاشوا فيها في سوريا قبل اللجوء؛ وسعوا عبر ذلك إلى إيجاد مجتمعات جديدة توفّر لأفراد الجماعة شعوراً ولو ضئيلاً بالأمان، وحسّ الانتماء للجماعة.

في أوروبا الوضع مختلف. فهنا ثمة لغات أجنبية، وهو أمر يضيف تعقيداً على عملية التواصل والتكيف الاجتماعي، وثمة ثقافات مختلفة، تضيف تعقيداً جديداً على المعايير القيمية والاجتماعية لدى السوريين اللاجئين. وبالاستناد إلى الملاحظة السريعة فإن أعداداً من السوريين اللاجئين في أوروبا فضّلوا التواصل مع الجماعات الأقرب إليهم، لغوياً وثقافياً، فاندفعت العديد من الأسر اللاجئة للتواصل مع المجتمعات العربية والإسلامية التي تقطن هذه البلدان منذ زمن طويل، وتحديداً الجماعات المهاجرة من الشمال الإفريقي (الجزائر، المغرب، وتونس.. إلخ).

في فرنسا مثلاً، فضّلت عديد العوائل السكن في أحياء تضمّ مجتمعات عربية ومسلمة، حيث شكّلت هذه المجتمعات بديلاً لشبكات الحماية الاجتماعية التي فقدوها في لجوئهم القسري، ومن جهة أخرى وفّر هذا “الانتماء المؤقت” شعوراً أولياً بالأمان، حيث شكّل التقارب مع هذه الجماعات (العربية والمسلمة) بديلاً عن شبكات الحماية التي تفكّكت إثر اللجوء. قدّمت هذه البيئات بدائل أولية بالنسبة للاجئ، فهنا يستطيع التواصل مع الآخرين من خلال لغة مشتركة هي العربية، وهنا يستطيع أن يجد مستلزمات سلّته الغذائية، حيث تتوافر السلع في المحلات العربية، وفي المقاهي يستطيع سماع اللغة العربية كأنه في “منزله”، حتى أن بعض اللاجئين السوريين عبروا عن عدم ضرورة تعلم اللغة الجديدة طالما أنهم يستطيعون التواصل وحتى إيجاد عمل ضمن الأوساط العربية والمسلمة.

ثمة في المقابل أسر وأفراد سوريون فضّلوا الخوض في علاقات اجتماعية مع المجتمع المحلي لبلدان اللجوء، وشكل هذا الخيار عاملاً مهماً في دفع عملية تعلم اللغة الأجنبية إلى قمة الأولويات. عموماً نستطيع الوقوع على هذه الشريحة ضمن الأوساط الشابة من السوريين، وفي أوساط الأسر ذات المنشأ المديني، كما لعبت معدلات التعليم دوراً في هذه الخيار، فنلاحظ أن الأكثر تعلماً هم الأكثر دينامية في الانخراط بعلاقات اجتماعية مع المجتمع المحلي، وهذه ملاحظة تشير إلى دور البيئة التي نشأ فيها الفرد وتأثيراتها على ديناميكيات التكيّف.

  بالنسبة للفئة الأخيرة، تشكّلت ملامح إجابات حول سؤال الانتماء، ومنها القول بمشروعية الانتماء القومي وحتى الثقافي لهذه البلدان، وإمكانية التكيف وتشرّب الثقافة السائدة والتحول تدريجياً إلى أفراد ينتمون إلى بلد اللجوء، طالما أن قوانين هذه الدول لا تحول دون ذلك، وهو بعكس التصورات والدعوات التي تنادي بتحوّل اللاجئين السوريين إلى جالية في أوروبا، لها خصائصها وملامحها المتمايزة، وهي تصورات خاصة بالفئة الأولى التي تم عرضها في هذه الورقة.

قد يكون الانتماء إلى العروبة والاسلام خياراً منطقياً بقدر ما هو موضوعي بالنسبة لكثير من اللاجئين السوريين في أوروبا، فسؤال الهوية يصبح ناجزاً على هذا الصعيد، بينما يقف كثيرون أُخر حائرين وغير مكتفين بهذه الإجابات، باحثين عن تعريف آخر لهوية يُشَكُّ بأنها كانت ناجزة في البلد الأم؛ فإذا كانت الدولة الحديثة في البلدان المتقدمة قد ساهمت في بناء هويات اجتماعية واضحة المعالم ومفتوحة على عمليات التغيير التاريخية، فإن أنظمة القمع في بلداننا العربية عملت العكس، حيث ساهمت في بناء وهم الهوية أكثر مما ساهمت في بناء هوية اجتماعية ناجزة.

على أي حال لا يمكن تعميم أياً من الملاحظات السابقة، فظاهرة اللجوء السورية و سؤال الانتماء وتحديداً في أوروبا، ما تزال في بداياتها ولم تكتمل وتتبلور بعد، فكل ما نستطيعه هو مراقبة هذه الظاهرة وجمع الملاحظات حول ديناميكيات التكيف الخاصة بهذه الجماعة/ات اللاجئة حديثاً. من جهة أخرى، من الصعب الحديث عن “جماعة” سورية لاجئة، فالسوريون اللاجئون هم جماعات ولا يشكّلون مجتمعاً متجانساً رغم التقاطعات الثقافية والقيمية التي تجمعهم، وهو ما يزيد الأمور تعقيداً.

خاص أبواب

*كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا

اقرأ/ي أيضاً:

بين الانتماء واللاانتماء: كره الذات عند المهاجرين الجدد. حوار مع الباحث السوري سلام الكواكبي

الاغتراب في المنافي اللغوية المتكرّرة: تجربة كاتب بعد منافٍ أربعة

الهويات القاتلة وتشريع المجازر

القوارض الإندونيسية تجبر وفداً حكومياً ألمانياً على البقاء في بالي بعد تعطيل طائرته

برشلونة على موعد مع عودة العصر الهولندي… ولكن!