in

أسود وأبيض!

العمل الفني: نسرين أبو بكر

مروة مهدي عبيدو*

حين تقرر الرحيل، تأخذ خطوة واعية لقتل عالم بأكمله، وتنفخ روحاً في طريق جديد يولد. تشحب ألوان العالم القديم مع مرور السنين، وتتضح معالم الطريق الجديد في المقابل…تحاول أنت مستميتاً أن تنتمي… أن “تندمج”… لكنك لا تستطيع حتى النهاية، لأن هناك أشياء تخصك تبقى معلقة بين هذا العالم وذاك، تحاول أن تعيد ترتيبها أو سحبها للهامش، لكنها ترفض أن تنتهي وتصارع من أجل البقاء. تحاول أنت آلاف المرات أن تنقلها لصندوق الماضي، لكنها تأبي وتظل معلقة على الحواف، تتسلط عليك كلما غفوت… فتفيق على غربة… تنتصر عليك كل مرة، خاصة في اللحظة التي تتصور فيها أنك لم تعد غريباً بينهم!

الرجل الأسود في القبو:

بعد رحلات بحث طويلة عن وطن صغير دافئ، هرباً من شتاء المدن الباردة والشوارع الصاخبة، التقيت عجوز تبحث عن أحد ينقذها من صمت أطراف البيت المترامية، بعد سنوات من الوحدة المؤلمة. اهتمت السيدة في حوارها الأول معي، بأن تتحقق من تصوراتها عن الحياة على الضفة الأخرى من المتوسط. سألتني عن الشوارع الرملية في بلادنا، عن الجمال كوسيلة للتنقل، وعن تماسيح النيل المتوحشة. لقد وجدت في نافذة على عالم جديد، وبعض من ونس بعد الوحدة الطويلة. وضعنا خططا سويا، أرادت أن تتذوق أطباقا جديدة، وأن تسمع الألمانية بلكنة مختلفة، واتفقنا على اللقاء في الغد لنكمل خططنا، بعد أن وافقت على أن أسكن غرفة في منزلها، مقابل ألا أدعو أحدا إلي، وأن أخرج القمامة يومياً، وأنظف البيت أسبوعياً، وأن أدفع لها قيمة مالية شهرياً.

عدت إليها في اليوم التالي محملة بحقائبي، وبآمال واسعة وبحلم بمكان دافئ للنوم، كاد أن يتحقق. طرقت الباب كثيراً، وانتظرت طويلاً. فتحت السيدة مساحة لا تزيد عن 10 سم من باب البيت، ومن خلالها رأيت عيونها من وراء سلسلة معلقة بين الباب والحائط، أخفت ما أتيح للرؤية، خرج صوتها إلي واضحاً بلا تردد أو جزع: “لن أستطيع السماح لك بالسكن معي، ابنتي تخشى علي من الملونين”. وأغلقت الباب سريعاً، قبل أن أفتح فمي لأعبر عن هول مفاجأة سقطت فوق رأسي. شعرت لحظتها ببرودة شديدة تسرى في أطرافي، وخوف وغربة.

استعدت نفس المشاعر بعد ذلك بسنوات، حين التقيت جاري الألماني بالصدفة في المصعد، حيث أردت الذهاب للقبو لإنهاء بعض استعدادات الاحتفال بأعياد الميلاد. حكى لي جاري مازحاً، عن خوفه كطفل من الذهاب للقبو، بسبب الرجل الأسود القابع هناك، والذي ينتظر الأطفال متحفزاً في الظلام. كانت الأمهات تهدد أطفالهن بالرجل الأسود في القبو، إذا أساءوا التصرف. لم أفهم مزحته، لكني أذكر أني شعرت لحظتها بإهانة تقترب لتؤلمني، نفس المشاعر التي تنتابني، عندما يفضل المسافرون في الحافلات العامة، الوقوف بعيداً عني، بدلاً من الجلوس بجواري!

القبضة البيضاء:

في ليلة شتوية، سطا فيها الأبيض على كل شيء، وقفت في انتظار الحافلة لنقلي لبيتي الصغير، لم يكن المشي خياراً متاحاً في الليالي الثلجية. سيطر صمت على الشوارع، كسره بين الحين والأخر، أصوات مرور السيارات القليلة المسافرة، بين هنا وهناك. لا أذكر الكثير عن تلك الليلة، تبدو ضبابية في ذهني، تبقى في الذاكرة، صورة مشوشة لوجوه ثلاثة رجال، تماهت ملامحهم مع انعكاسات الأضواء الليلية على الثلج الأبيض.

كما أذكر بوضوح تلك القبضة البيضاء، التي تكورت وتحركت بسرعة البرق في اتجاه وجهي، بدا حجمها صغيراً في البداية، ثم أخذت تتضخم سريعاً، حتى ارتطمت بوجهي… أذكر وقعها على زجاج نظارتي، وصوت السقوط على الأرض، كما أذكر الظلام الذي ساد فجأة!

بعد ذلك بعدة ساعات حاولت فتح عيوني ببطء شديد، لأعرف مكاني وزماني، كان كل شيء ضبابي، وعيوني أبت أن تفتح على وسعها. سطا اللون الأبيض على كل شيء، على الحيطان والأسرة والستائر، حتى ملابس المرضى والأطباء. وفي الخلفية سمعت أصوات بشرية هادئة ممزوجة بأصداء سحب الأسرة على الأرضيات الناعمة. حاولت أن أتحدث، لم يطيعني صوتي، فصمت وانتظرت وانتبهت كلما سمعت صوت فتح باب الحجرة. عكر صفو البياض رجل أسود دخل بهدوء للحجرة، وهو يدفع أمامه عربة محملة بمواد التنظيف وأدواته الملونة، كان كبيراً في السن وضعيف البنية، كاد أن يبتسم لي، لكنه امتنع. أخذ الرجل يفرغ سلال القمامة، ويتحرك بين الأسرة صامتاً، ثم أخذ ينظف الأرضية، محاولاً إعادة رونقها الأبيض، الذي شحب بفعل الزمن. لم يلاحظ أحد من الموجودين بالحجرة وجوده، وكأنه لم يكن هناك، إلا طفلة صغيرة، كانت تزور مريضة احتلت السرير المجاور لي، ذهبت الطفلة في اتجاهه ووقفت في مواجهته قائلة: “ماذا فعلت ليكون لونك هكذا، لابد أنك لم تطع أمك أبداً؟”. مدت جارتي في الحجرة ذراعها بسرعة، وشدت الطفلة بقسوة من أمام الرجل، وأخذت توبخها بكلمات غير واضحة. وقف الرجل لدقائق مهزوماً من وقع كلمات الطفلة على قلبه، محاولاً إخفاء دموع إهانته، ثم أسرع بالخروج. شعرت بالصرخات التي حملها معه في قلبه، والتي كادت أن تنفجر في وجه العالم!

كانت عيناي ثقيلتان من وقع قبضات الأمس، لم أستطع أن أفتح عيوني كاملة لأرى بوضوح، تمنيت أن يكون حلم، لكن ثقل وجع الرجل كان أكثر وضوحا وقسوة من أن لا أدركه. أغمضت عيوني من وقع ألمه على قلبي، وسمعت همهمات الأم مع طفلتها، التي غضبت وحذرتها من ذكر مثل هذه الأشياء أمام الغرباء. هزت الطفلة رأسها وقالت: “أنا مطيعة يا أمي، وعليك ألا تقلقي، سوف ينقلونك لحجرة أخرى، لقد تحدث أبي اليهم”، ثم همست في أذن أمها: “إنها أيضاً من الأشرار”. شعرت بإصبعها الصغير وهو يتسلل ليشير إلى، في محاولة طفولية للتكتم على الأمر. لم أملك القوة للتحرك أو للرد أو حتى لإيقاف دموعي أو فيضان الوجع الذي فرض نفسه علي، وظل معلقاً بالقلب لا ينطفئ!

هذا الوجع المكتوم، الذي يكسر شيئا بالروح، ويحفر ثقباً أعمق في القلب، خاصة في تلك اللحظات التي لا تستطيع فيها الرد. حين تكتشف لمئات المرات، وكأنها المرة الأولى، أن غربتك هي لونك، خطيئتك التي لن تستطع التخلص منها، والتي لن يغفرها لك العالم، وسيظل يحاكمك عليها إلى ما لانهاية.

هكذا تسير حياتي هنا… محاولات مستمرة للانتماء، ويقظات متتالية على وجع الغربة، وسؤال محير يفرض نفسه على كل وجع: كيف لي أن أنتمي لعالم يختصر البشر في لونين “أسود وأبيض” ؟!

*مروة مهدي عبيدو، ناقدة وأستاذة جامعية، حاصلة على درجتين للدكتوراه في علوم المسرح وفنون الأداء.

اقرأ/ي أيضاً:

دوي الأختام

ماذا يعني الوطن يا أنا؟

ما بين غربةٍ أعرفها… إلى مجاهل هذه الغربة

لجوء حتى حدود الغربة

حركة “السترات الملونة” تتظاهر في عدة مدن

على عتبة الأوسكار .. “روما” مرافعة جمالية