in

دوي الأختام

العمل الفني: رياض نعمة

د.مروة مهدي عبيدو

بقيت الحدود التي اختبرتها على مدى حياتي عائمة بين حريتي وحرية الأخر، بين الخاص والعام، بين الحب والكراهية، بين الحلم والواقع، حتى الحدود بين الموت والحياة. وحدها الحدود السياسية بقيت واضحة وقاسية، بل ازدادت وضوحاً وقسوة كلما اقتربت منها، خاصة حين قررت الرحيل.

تحولت الكلمة الفارغة إلى عالم واسع ومؤلم، تناثرت وأفرغت قسوتها في وحشية المطارات، وعلى مداخل نقاط التفتيش، وفي حدة الأسلاك الشائكة ودويّ الأختام، أخذت تدافع عن نفسها بأسلحة الحراس، لتترك المجال واسعاً لحركة طلقات النار التي تعبرها ووحدها تختار من يعبرها، وتسنّ قوانين اجتيازها وتسمح بالعبور.

الرحيل:

فرض عليّ الرحيل عبور الحدود من ضفة إلى أخرى، وأجبرني على مواجهة دوي الأختام. حملت حقيبة سفر والكثير من الذكريات وقررت إنهاء طريق لأبدأ غيره على الضفة الأخرى من البحر، ورحلت في مواجهة الحدود.

في طائرة الصباح الباكر من الضفة الشرقية للمتوسط باتجاه الغرب جلست أحملق من النافذة، أودع ذكريات وسنوات العمر. سطت عليّ مشاعر لم أختبرها قبلاً، إحساس يشبه ألم قطع جميع الأوتار التي ربطتني بعيون أخرى، وجع تلاشي رائحتي من مكان اعتدته منذ سنوات، إحساس يشبه الانصياع لسطوة الخوف أو محاولة الامساك بأطراف الحلم الذي يتحكم وحده في قواعد اللعبة.

هذا الفراغ الرهيب الذي يسيطر عليك لحظة الرحيل، كأن مشاعرك سحبت منك بأكملها فجأة ولم تعد تشعر بشيء! لا ترى شيئاً كأنك وصلت نقطة الصفر، لحظة خروج الطلقة من مسدس موجه لجبينك حيث تشعر فقط باللاشيء!

ختم الدخول:

هبطت الطائرة وخرجت منها إلى صالة الوصول بالمطار الغريب. وقفت دقائق أحملق في صور لم أشاهدها من قبل. ليس لدي إلا حقيبة ووسادة صغيرة برائحة الوطن، وبعض النقود. كل شيء كان معبّأً داخل ذكريات في ذهني، دون أن تفصح عن نفسها.

أفواج من البشر وأنا بينهم وقفوا في طابور طويل، انتظرت طويلاً حتى وصلت صندوقاً زجاجياً جلس فيه شخصان لا يبتسمان. أخذ أحدهما جواز سفري، ورمقني بنظرات اتهام مبطنة، كأنه لخّصني في احتمالية/ إمكانية مجرم.

وقفت أمامه لحظات طويلة في انتظار دويّ الختم، توقف الزمن، كأني فُرغت فجأة من إنسانيتي. كان يرمقني بنظرات صارخة توغّلت إلى روحي، حاولت أن ابتسم وفشلت، فجأة شعرت بفقدان ثقتي بنفسي، تشكّكت بمسار حياتي وراجعت تاريخي سريعاً، ربما اقترفت شيئاً أمسكه عليّ!

أخذ العالم يضيق، أصبح مجرد نقطة باهتة وسط ظلام! وكنت ضئيلة جداً وغير مرئية، ولم أستطيع إلا الانتظار. أعطى هويتي لأخر بعد أن اختبرها كثيراً وأزاحني جانباً، وأخذ يعطي الأختام لأخرين دون النظر في وجوههم. مرّ الكثيرون وانتظرت أنا! دقائق كسنوات انقضت قبل أن ينظر إليّ مجدداً، تسربت نظراته الغاضبة إليّ دون أن أفهم السبب، وسمعت دوي الختم فوق أوراقي، لينهي المأساة ويأمر الزمن بالتحرك مجدداً.

الغربة:

خرجت مسرعة لألحق بحقيبتي، كل ما أملك من موطني. حملتها وخرجت أخترق حدود المدينة، دون أن أعرف وجهتي. بدأت حدود اللغة بالإفراج عن نفسها. شعور غريب جداً أن تسمعهم يتكلمون ولا تفهم شيئاً. مشاهد تتحرك أمامي بسرعة، لم أستطيع استيعابها، والجميع يرمقونني بنظرات ثاقبة ليؤكدوا لي بأني غريبة!

لم أستطع التواصل إلا مع غريب يتحدث لغتي، أصرت أمي على وضع رقم هاتفه في حقيبتي. كان منتصف الليل، ولم يرد إلا بعد عدة محاولات، ليأتي صوته عصبياً جداً لأني أيقظته، وبعد أن عرفته بنفسي قرّر ارسال صديق له لينقلني بسيارته إلى أقرب مأوى، لأنه يبعد عني مئات الكيلومترات. كان عليّ أن أنتظر غريباً أخر أمام المطار، وكان عليه أن يعرفني.

بعد حوالي نص ساعة وصلت سيارة بيضاء نزل منها رجل ستيني، بهدوء فتح لي حقيبة سيارته وأشار لأضع أشيائي بداخلها. لم يبدأ بالكلام معي، إلا بعد أن انطلق على الطريق السريع ولم أفهم ما يقوله، ولم يفهم ما قلته! أخذت حقيبتي من سيارته وسرت ورائه دون أن أعلم إلى أين. بدا المبنى غريباً، لا يشبه الفندق، فتح أحد الأبواب، تركني وحدي في الغرفة ورحل.

في الصباح الباكر فتح غرفتي دون استئذان، وعبر حدودي الشخصية بوقاحة! أذكر ملمس جسده العاري جاثماً على قلبي، ورائحته الكريهة الممزوجة بالكحول. حاربته بكل ما أملك من طاقة، فلن أحصل على ختم منه لأبقى داخل حدود الغرفة. حملت أشيائي وخرجت مرة أخرى إلى حدود الشارع الواسعة، ولكن بلا ختم هذه المرة.

دوي الخواء:

تلاحقت سنوات حياتي على الضفة الغربية للمتوسط، وتلاحق معها دوي الأختام. أختام في مكتب الأجانب ليسمحوا لي بالبقاء، أختام حتى يعترفوا بي، أختام فوق اسمي وأخرى تتوازى معها على قلبي، ليتحمل وقع الأختام على هويتي. كان وقع الأختام يتلاشى وأبقى بعده خاوية وحيدة، أبحث عن بقايا مشاعر تخرجني من قضبان هذا الدوي.

بدأت رحلتي في عبور حدود أخرى غير مرسومة على الخرائط، عبور خواء الأختام بداخلي.

“لماذا كل هذا الوجع الذي ينتابك لحظات دوي الأختام؟ أغمضي عينيك واتركيهم يختموا على قلبك الخاوي، ليسمحوا لك بالمكوث على هذه الضفة من البحر. لماذا تحفر الأختام داخلك كل هذه الجروح العميقة؟

أعدك أني سأغمض عيني في لحظات العبور دوماً حتى لا أرى وجوه حراس الأختام، وهم يخترقون حدودي الإنسانية ويسرقون إنسانيتي. عليكِ أن تقبلي العقاب في صمت، لأنكِ ارتكبتِ خطيئة حين قذفتك الحياة على الضفة الأخرى من البحر!”.

*أستاذة في المسرح والدراما والنقد المسرحي، مصرية مقيمة في برلين

اقرأ/ي أيضاً للكاتبة:

ماذا يعني الوطن يا أنا؟

بمناسبة الميلاد ورأس السنة… ألمانية تعرض زوجها للبيع مقابل 18 يورو…

كرة القدم أكثر من مجرّد لعبة