in

ساكن العربة

فادي جومر.

لم يكن في بلدي قطارات بالمعنى الحقيقي للكلمة.

حين ركبت القطار لأوّل مرّة في أوروبا، كنت أحمل على جواز سفري “فيزا شنغن بتقلع العين”، وكنت مقبلاً غير مدبر على هذه البلاد، بدهشة طفل وأحلام يقظة مراهقة.

لاحقًا، وبعد جولة قصيرة في ألمانيا، انتهت مدة “الفيزا-الحلم”، ودخلتُ عالم البرزخ، ذاك العالم المبني على الانتظار، الذي تكون فيه لا مواطنًا ولا لاجئًا.. مرحلة وسيطة تشبه نهر الموت الذي تهيم فيه الأرواح في الأساطير اليونانية، بانتظار موعد انتقالها إلى الجحيم أو النعيم.
وهنا.. بدأت علاقتي الحقيقية بالتكون مع القطارات. تنقلت بين عدة مدن في ألمانيا، أصدقاء ومناسبات متنوعة، وصارت كل رحلة بحد ذاتها، تكاد تقارب رحلة الجوء. اللحظة التي يعيد لك فيها موظف المراقبة البطاقة، مع ابتسامته العريضة، ولطفه البالغ، تكاد تشبه لحظة عبور الحدود، أمر ما أحمله من بلدي في لاوعي، يجعل ردّة فعلي عندما أرى أي شرطي أو عسكري: هي الخوف.

 

في الرحلات البعيدة، أصلّي ليمرّ المراقب في أقرب وقت، أظل خائفًا، متوترًا، أتوقع أنّي ارتكبت خطأً ما، ولا أطمئن حتى يمرّ المراقب ويتفقّد بطاقتي. وعندما يعيدها باسمًا تبدأ الرحلة:

أختار في كل رحلة رفيقًا، أو رفيقةً، آتي به غالبًا من بلد لا يستطيع السفر منه إلى ألمانيا: سوريا، تركيا، لبنان، الأردن، أو دول الخليج العربي.. أمضي الوقت بالتحدث معه، وقد يحتد الجدال فتعلو نبرة صوتي، ولا أبالي بنظرات الركاب إلى المشرقي المجنون الذي يتحدث إلى النافذة أو الكرسي الفارغ بقربه.

في الرحلات الطويلة أغيّر عدة رفاق، وقلّما تمر رحلة دون “موعد عاطفيّ” فلدي شعور غامض بأن القطار مكان رومانسيّ جدًا للمواعدة، لم أجرب هذه الفرضية حتى الآن.. ولكني واثق منها لسبب لا أعرفه، فالعبور الخاطف السريع للأشجار قرب النوافذ، المسافرون وحقائبهم في المحطات، سماء ألمانيا الغائمة أغلب الأوقات.. كلها تبدو لي كقصيدة أو فيلمًا روائيًا من الكلاسيكيات، الدفء خلف النوافذ التي تفصلك عن الثلوج، وإيقاع حركة القطار، مناخ مثالي للمواعدة. يومًا ما سأواعد سمراء هاربة مثلي من الجحيم في القطار.. وسأحاول ألا تقفز منه هربًا مني.

 

تخيلت مرّة أني استطعت تحويل مقصورتين لمطعم خاص بي، مطعم حقيقي، أنا مسافر دائم، فلم لا أقدم طعامي للمسافرين، أطباق شرقية تعبر معهم المسافات، تهرب مع الهاربين، فتزرع شيئًا من الأمان يؤنس مخاوف رحلتهم، تعود مع العائدين في زيارات سريعة، فتقلل العتب، وتلوّن ما بهت من الألفة.. وربما يسعفها الحظ فتعبر حدودًا ما، مع لاجئ باحث عن أرض لا تبتلع من يعيش على ظهرها، فتخفف من ثقل الغربة، وتجعل حلم العودة أقل وجعًا.

 

أنشأت مرة أخرى فيه مسرحًا، مسرح حجرة صغير، عرض يقدمه ممثل ومغنية وعازف عود، يحكي قصصًا عن العالقين في خيام اللجوء، يُشرك المسافرين في تأدية العرض، يستفز أحلامهم، يطلب منهم فتح حقائبهم لنقاش ما علق فيها من ذكريات، يقسو عليهم بأسئلة تستفز أقسى مخاوفهم..
يسأل بوقاحة: هل تتخيل أن تعيش هنا وابنك المراهق في خيمة مع أمه؟

ثم يقفز المؤدون عند أول محطة تاركين السؤال ليسافر مع الركاب.

 

لا أعرف إلى أي مدى، يؤثر عدم امتلاكي لبيت خاص حتى اللحظة، على هذا الشغف الدائم بالقطارات، وعلى محاولاتي الدائمة، لفعل كل ما أحب في القطار، وتخيل أني أفعل ما أعجز عنه.. للكتب نكهة الوقت في القطار، للموسيقا إيقاع الرحيل، للنوم لذّة الإياب، للكتابة ألق الوصول، حتى رشفات “البيرة” في القطار، تحمل شيئًا من ارتواء اكتشاف الأماكن الجديدة. للصدف والتعرف على الغرباء دفء الوطن.. أجل فللقطار ميزة مذهلة: الجميع في القطار مسافرون، غرباء، لا مكان آخر يمكنه منح الغريب هذا القدر من الأمان.

هل ستدرج اللغة العربية كلغة أجنبية في المدارس الألمانية؟

إسرائيل ستغلق مكتب قناة الجزيرة في القدس